فى كتابه القيم «الاستشراق» تناول المفكر الراحل إدوارد سعيد العلاقة بين الغرب والشرق، بوصف الأول كوّن تصوراته، التى تطورت إلى أطماع استعمارية فيما بعد، بناءً على صور خيالية، ساهمت فيها قراءات مضللة للأدب بوصفه نقلا للواقع لذا كان الشرق موقع «المتع الحسية»، و«الفتيات اللعوبات»، و«الجوارى الشقراوات والسمراوات اللاتى يعزفن على الناى ويرقصن فى صورة مداعبة للحواس».. وهكذا لا يمكننا أن نقرأ كتاب «القوة والإيمان والخيال» لمايكل أورين، دون أن نراعى مفهوم «الاستشراق»، خاصة عندما نقرأ هذه الفقرة: «أضفت عجائب الكتاب المقدس والمثيرات الحسية للشرق الأوسط جواً كالأحلام، ولكن هل كان ذلك يكفى الغربيين لزيارة المنطقة والمخاطرة بمواجهة سماتها الأخرى الأقل إثارة وجاذبية؟». الكتاب صدر مؤخرا عن «كلمات عربية» ومشروع «كلمة» للترجمة، ويتناول تاريخ علاقات أمريكا بالشرق الأوسط منذ إعلان استقلال الولاياتالمتحدة عام 1776، حتى الآن. «قراصنة»، «إتاوات»، قراءات للإنجيل و«ألف ليلة وليلة»، «أفيون»، «بترول»، «خمور»، ورقيق بيض للجزائريين من الأسرى الأمريكيين، إلى جانب أحلام- بنيت على قناعات إيمانية- بتحقيق «نبوءة أرض الميعاد» على أرض فلسطين.. هكذا يمكننا أن نجمل العلاقة بين أمريكا وقت الاستقلال ودول الشرق الأوسط. ولا يمكننا تصور هذه العلاقة بعيدًا عن مفهوم الاستشراق، الذى تجسد من خلال قراءات الغرب لألف ليلة وليلة، أو نصوص أخرى مؤلفة بالإنجليزية،لكن كان الشرق الأوسط يمثل للأمريكيين «فرصة للتحرك»، فقد كان «يعنى لهم أكثر من الخيال؛ كان أفقاً بلا حدود، ينتظر الاستكشاف والمغامرة». كانت الولاياتالمتحدة (13 ولاية فقط وقتها) تسعى- بعد استقلالها عن المملكة البريطانية- إلى أن تكون دولة يعتمد اقتصادها على التجارة الخارجية. كانت التجارة تتم فى الشرق، ترسل الولايات سفنها عبر البحر المتوسط وتبيع منتجاتها، البترول والخمور، وتتلقى شحنات من الأفيون، والأقطان، لكن السفن الأمريكية واجهت ضربات موجعة من قراصنة شمال أفريقيا، وبالتحديد من القراصنة الجزائريين. كانت الدولة المستقلة حديثا تفتقد الحماية البحرية لأنها لم تكن تمتلك أسطولاً حربياً، كما فقدت بعد الاستقلال حماية الأسطول البريطانى لسفنها.. لذا كان عليها التعامل بشكل مباشر مع البربر! تم دفع «الإتاوة» لطرابلس (أهم إمارات ليبيا فى هذا الوقت)، وتونس والجزائر. اللافت أن «الإتاوة» كانت تتضمن أسلحة ومدافع وبارودا، إلى جانب سفينتين حربيتين من الأسطول الأمريكى للجزائر- ( كان الأسطول تحت التأسيس.. أى أن الجزائر كانت أول مستفيد من قوة أمريكا البحرية وهى فى طور التكون)- وهكذا منحت أمريكا القراصنة مبررات وجود، ودعمت قوتهم، ومنحت قراصنة شمال أفريقيا الأسلحة والسفن التى ستضرب التجارة الأمريكية فى البحر المتوسط مستقبلاً!.. ما أوغر صدور الأوربيين الذين كانوا يعانون، بالمثل، من القراصنة. العلاقات بين أمريكا والشرق الأوسط لا يمكن حصرها فى هذه الفترة، فقد أثرت على قوام المجتمع الأمريكى التواق للحرية.. لذا كان من الطبيعى أن يتم اكتشاف هذه المنطقة بعيداً عن تصورات الخيال. كان «جون ليديارد»، من أوائل المكتشفين لمصر (عام 1788)، لكنه لم يجد شيئاً من الخيال، باستثناء أسطورة البدوى المحب للحرية، وهى الصورة التى رسخت فى الوعى الأمريكى عن مصر، فقد لمح الكاتب الأمريكى أن البدوى يتشابه مع صورة المغامر الغربى، وكذلك راعى البقر الأمريكى، حيث يتجول البدوى راكباً الجمل فى الصحراء مكتشفاً دروبها.. هكذا كتب ليديارد للرئيس توماس جيرفسون: «مصر جميلة، ولكن على الورق فقط»! (كانت رحلة وتقارير ليديارد بداية الاكتشاف الواقعى للشرق الأوسط). ولا يمكننا إغفال تناول الإنجيل لمنطقة الشرق بوصفها أرضاً جذابة.. تحمل هذه الأرض رحيق عذابات ورحلات ومعجزات المسيح، هذا الجانب هو ما دفع الكاتب الأمريكى «مارك توين» لمغادرة أمريكا والالتحاق برحلة حج تمر بالمغرب، وسوريا، وتركيا ثم فلسطين. خلال الرحلة اكتشف «توين» أن ما كتب عن الشرق غير صحيح، فكتب: «النظر للابن الأصلى للصحراء يعنى نزع الرومانسية عنه للأبد»! رغم زيارة «ليديارد» لمصر وكتابته التقارير عن طبيعة الحياة فيها، ورحلاته الاستكشافية، فإن رحلة توين كانت بمثابة تصحيح لصورة ذهنية متوارثة عن الشرق، إذ نشرت جريدتان يوميات رحلة الكاتب الأمريكى، كما نشر «توين» مراسلاته وانطباعاته عن الرحلة فى كتاب بعنوان «الأبرياء فى الخارج»، حقق مبيعات مرتفعة، واعتبر مرجعاً للتعرف على بلاد الشرق. اللافت أن توين حينما سمع عن رحلة الحج، فكر بأنه سيذهب إلى «الموقع الحقيقى لأحداث ألف ليلة وليلة»، حيث تكلم عن الرحلة قائلا: «الصورة لا ينقصها شىء، فهى تعود بك فوراً إلى طفولتك المنسية، فتحلم مرة أخرى بعجائب ألف ليلة»، لكنه عندما ذهب اكتشف «خيالية»، وعدم صدق، الصورة ! أى أن التصورات المغلوطة والخيالية عن الشرق الأوسط لم تكن صحيحة، وهكذا بدأ التواجد «الناعم» لأمريكا فى المنطقة. عبرت سفينة تحمل العلم الأمريكى مضيق «هرمز»، واستقرت فى اسطنبول، ثم عبرت أنهار العراق، واستقرت فى بغداد، وختاماً رست بإيران.. كانت هذه الرحلة دليل قوة، لأن مضيق هرمز كان منطقة نفوذ بريطانية. كما حصلت أمريكا، وبالتحديد متنزه «سنترال بارك» النيويوركى على مسلة من الخديو إسماعيل، مجاناً، كان الحصول على مسلة «إبرة كيلوباترا» تأكيداً على تحول أمريكا إلى قوة عظمى.. حسبما يقول مايكل أورين. من ناحية أخرى، كانت رسالة أمريكا فى المنطقة رسالة إنسانية، قوامها التبشير، وتأسيس مجمعات ومدارس علمية وتثقيفية، ومحاربة الرق، والتوعية بحقوق الإنسان والحريات.. هذا ما يؤكده الكتاب، لكن هذه الإنسانية لم تتناف مع خطوات أمريكا لإعادة اليهود إلى أرض فلسطين. فى عام 1819 توجه مبشر بروتستانتى إلى فلسطين «بهدف إعادة فلسطين للسيادة اليهودية، وإنقاذ أرواح المسيحيين الأرثوذكس والموارنة والدروز». وفى عام 1891 وجهت مذكرة للرئيس الأمريكى بنجامين هاريسون كتب فيها: «نحن نؤمن بأن هذا هو الوقت المناسب لكل الأمم.. لإظهار التعاطف مع إسرائيل، فهناك 2 مليون يهودى روسى يناشدون تعاطفنا معهم، ويناشدون كذلك عدلنا وإنسانيتنا، وهم فى أشد الحاجة لملجأ فى فلسطين». ربطت المذكرة بين قدرة أمريكا على فصل صربيا وبلغاريا عن الدولة العثمانية، وإمكانية تحرر فلسطين من أجل اليهود. ويشير الكتاب إلى هذا المطلب باعتباره «فرصة لتحقيق أهداف الرب، فيما يخص شعبه المختار»!.. المذكرة رفضت من أوروبا، والدولة العثمانية، وبالتالى امتنع هاريسون عن اتخاذ «قرار متطرف»، «لكن رفض الإدارات المتتالية لدعم تكوين دولة يهودية لم يثن أعدادا كبيرة من الأمريكيين عن عزمهم».. هكذا نشأت مستعمرة أمريكية فى القدس، استأجر «آل سبافورد» منزلاً كبيراً خارج أسوار المدينة القديمة، وأنتجوا المنسوجات، وأسسوا مدرسة للبنات، وباعوا تذكارات للأرض المقدسة، وظلوا يحلمون بتحقيق نبوءة عودة اليهود. العجيب أن هذه المستعمرة لم تكن أولى المستعمرات الأمريكية فى فلسطين، بل سبقت بعدة مستعمرات! يختتم مايكل أورين كتابه برحلة استكشاف جديدة للشرق الأوسط، يربط بينها وبين رحلة جون ليديارد، أولى الرحلات الأمريكية للمنطقة، لكن بطل هذه الرحلة «ناثانيل فيك»، الذى توجه إلى العراق، وليس مصر، ضمن القوات البحرية الأمريكية عام 2003. يشير أورين إلى الاختلاف، ما بين رحلة 1788 وحرب عام 2003، واصفا الحرب- أى رحلة أمريكا الأخيرة للشرق الأوسط- «كان فيك ينظر إلى تجاربه فى المنطقة على أنها طريق للوصول إلى تقدير أعمق للولايات المتحدة، ومواجهة أخطائها، ولكن الاعتراف بفضائلها أيضاً» ويختتم أورين كلامه قائلا: «قد تنجح الولاياتالمتحدة فى تغيير رؤيتها لعلاقات سلمية ومثمرة فى الشرق الأوسط من الخيال إلى الواقع». أمريكا فى الشرق الأوسط منذ 1766 حتى اليوم المؤلف: مايكل. بى. أورين ترجمة: آسر حطيبة عدد الصفحات :735 الناشر: كلمات عربية