2 الحكاية حصلت قبل عامين، كنت يومها أجلس على ضفة نهر جميل فى إحدى مدن ويلز الساحرة والنائية، لا تتوقع منى أن أصف لك جمال المكان فقد حاولت كثيرا وفشلت، يكفى أن أقول لك إن سحره دفعنى للتفكير فى الانقطاع التام للعبادة فور وصولى إلى مصر لعلى أحصل فى الجنة على حتة أرض بها كل هذا السحر، وربما أراد الله عز وجل أن يلقننى على الفور درسًا قاسيًا لمجرد أننى شبهت جمالاً دنيويًا بجمال الجنة الذى لا يتصوره الخيال. سمعت صوت خطوات تقترب خلفى فالتفت نحوه، وجدته خلفى خمسينيا أشيب الرأس ينظر مبتسما إلى كمبيوترى المحمول الذى ينبعث منه سحر فيروز التى كنت أقول لنفسى وقتها، والعلم عند الله، إنها ستكون الإذاعة الداخلية فى الجنة، ظننته معجبا بصوت فيروز ثم اتضح أنه يفكر فى شىء آخر عندما قال لى بلطف: «لو كان هناك إنترنت لاسلكى لاستعرت منك الكمبيوتر ودخلت على بريدى الإلكترونى»، قلت ضاحكا: «صحيح أننا فى الجنة ولكن هذه الأمنية بالذات غير متوفرة للأسف»، لا أريد أن أستمر فى نقل الحوار مترجما على طريقة معامل أنيس عبيد. فالخلاصة أننا أخذنا نتحدث عن عدم توفر خدمة الإنترنت فى المنطقة كلها، وعبرت له عن شعورى بالفخر لأن خدمة الإنترنت لدينا فى مصر أفضل بكثير، اتضح أنه سافر إلى مصر ورد على مداعبًا بأن هناك أشياء فى مصر ليست أفضل بالتأكيد مما تراها هنا، أغلقت الكمبيوتر ووجدتها فرصة لاستعراض تحسن قدرتى على المحادثة أمام زوجتى التى كانت تراقب الموقف من ركن الأطفال الذى كانت تلعب فيه ابنتى، اتضح أنه طبيب يقيم فى لندن لكنه يمتلك عزبة ورثها عن والده ويأتى مع أسرته لقضاء عطلته الصيفية فيها، أشار إلى ابنه وابنته اللذين يلعبان فى ركن الأطفال بصحبة والدتهما، كانت زوجتى وزوجته قد بدأتا حوارًا وديًا فى نفس اللحظة. بعد دقائق تجمع شملنا وأخذ الأطفال يلعبون معًا بينما دار بيننا حوار مشترك حول مقارنة التلوث فى لندن بتلوث القاهرة، بدأت زوجتى تصف جو القاهرة وصفا خياليا من باب تشجيع السياحة الوطنية، نبهتها إلى أنهم زاروا القاهرة بالفعل، فغرقنا فى الضحك. سألنى الرجل كيف اهتديت إلى مدينة مجهولة مثل هذه ليست معروفة للسياح العرب، قلت له إن الفضل يعود إلى زوجتى التى جاءت إليها أثناء دراستها فى بريطانيا ودلتنى عليها، أخذ هو وزوجته يحدثاننا عن ضرورة أن نزور ضيعتهما التى تطل على أماكن أجمل. فجأة قالت زوجته إنها سعيدة لأنها سيتاح لها أخيرا أن تتعرف على عرب ومسلمين، وإنها معجبة بألوان الإيشارب الذى ترتديه زوجتى، وإنها كانت تتمنى أن يسمح لها فى عملها بارتداء ألوان مثل هذه، سألتها زوجتى عن طبيعة عملها فردت ببساطة «حاخام»، كانت التبليمة التى انطبعت على وجهينا أكبر من أن يتم تجاهلها، سألنى «هل لديكم مشكلة فى التحدث مع حاخام؟». فجأة بدا وكأننا نسينا الإنجليزية وأخذنا نصدر أصواتا غير مفهومة، ثم استحضرنا كل ما تعلمناه من الدكتور عبدالوهاب المسيرى وبدأت أصواتنا فى العودة إلى طبيعتها قائلين إننا لا يمكن أن نكون ضد اليهود أو اليهودية، وأن مشكلتنا كعرب ومسلمين هى فقط مع الإسرائيليين، وقبل أن نستعيد طلاقتنا ونفتح على الرابع، قال لنا بهدوء إنجليزى يشلّ إن المدام الحاخامية إسرائيلية وأنهم قادمون للتو من زيارة إلى إسرائيل. لم أختبر فى حياتى ذهولا كهذا، للحظات تجمدت ثم فجأة انقضضت على ابنتى وهى تلعب مع طفليهما كأننى أحررها من أيدى خاطفين، هاربا من نظرات الطفلين اللذين لم يفهما ما الذى حدث للتو، وزاغرًا لطفلتى التى «زمزقت» لأننى قررت فجأة أن أقل مزاجها، بينما كانت زوجتى لاتزال تغالب ذهولها. فجأة اختفت كل ملامح الطيبة والحنية التى كنا نرى الاثنين من خلالهما، وهما فهما اللى فيها ففتحا فى الكلام بحماس يشرحان لنا ونحن نلملم أشياءنا أنهما ضد الصهيونية، وأنهما يشاهدان قناة الجزيرة الدولية ويتعاطفان مع حقوق الفلسطينيين، بينما كنا لانزال واقعين تحت سطوة سهم الله الذى نزل علينا، وعندما بدأنا نتحرك مبتعدين عنهما اقترب الرجل منى أكثر وقال لى بحزن حقيقى «لماذا تتصرفون هكذا؟». وأنا رديت طبعا. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]