نستطيع أن نعتبر الأصولية شكلاً من أشكال الهجرة، لكن الهجرة تكون أكثر ما تكون إلى المستقبل الذى يبنيه المهاجرون، أما الأصوليون فهم يهاجرون للماضى الذى لم يعد له وجود. وقد بدأ تاريخ الإسلام بالهجرة التى تحول بها المسلمون الأوائل من جماعة مضطهدة إلى نواة لدولة جديدة نشأت فى يثرب وظلت تتسع وتتقدم وتتحضر حتى ملكت العالم القديم كله. وفى التاريخ المصرى الحديث هجرة أخرى تكاد تكون مجهولة، لأنها كانت حركة رومانتيكية محدودة بدأت فى الأربعينيات الوسطى من القرن الماضى وانفضت فى الخمسينيات، وضمت مجموعة من المثقفين والفلاحين الذين قرروا أن يهجروا حياة المدينة والقرية، ويعيشوا فى الصحراء، لا ليصبحوا فيها بدواً، ولكن ليزرعوها ويبنوا فيها حياة جديدة. ومن المفارقات أن هذه الجماعة سمت نفسها «الأنصار»، وأصدرت مجلة تعبر عن أفكارها سمتها «الأنصار» أيضاً، فى الوقت الذى كانت تعيش فيه حياة المهاجرين! والمجال لا يتسع لحديث طويل عن هذه الجماعة، وهى ليست موضوعنا، ويكفى أن نعلم أنها ضمت اثنتى عشرة أسرة، فيها إلى جانب الفلاحين معلم، وطبيب، وكاتب، وضابط، وقد تعاون هؤلاء المهاجرون فى إنشاء مزرعة جماعية على أطراف قرية «العزازى» فى الشرقية، ثم تركوها فى أوائل الخمسينيات إلى الطور، ثم انتقلوا إلى سيناء حيث وضعوا مشروعاً لتوطين البدو وتوثيق علاقتهم بالوادى وبالسلطة المركزية، لكن الحكومة العسكرية قررت أن تزعجهم -فى حدود القانون- فتوقف المشروع، وعاد المهاجرون إلى المدن مرة أخرى يصحبون أولاداً لم يدخلوا المدارس ولا يحملون مؤهلات علمية! هذه محاولة من محاولات الهجرة إلى المستقبل، أما الأصوليون فيهاجرون إلى الماضى فراراً من الحضارة، وخوفاً من التقدم. والأصوليون لا يفرون من الحضارة الغربية وحدها، بل يفرون أيضاً من الحضارة الإسلامية التى ظهرت فى العصور التالية لعصر الإسلام الأول، عصر الأصول التى يرجعون إليها، لا ليفهموها ويدركوا مقاصدها، بل لينقلوا عنها ويقلدوها، بينما ينظرون بعين الريبة والاتهام لمعظم ما ظهر بعد الإسلام الأول من فرق ومذاهب، وفلسفات وثقافات. ومع أن الأصوليين يتحدثون بفخر واعتزاز عن عصر الفتوحات، فهم ينكرون كل ما أضافته هذه الفتوحات إلى الإسلام. لقد فتح المسلمون بلاد الفرس، فمن الطبيعى أن يتأثر الإسلام، قليلاً أو كثيراً، بما كان سائداً فى هذه البلاد من ثقافات، وبما كان قائماً فيها من مؤسسات، وبما كان يعتنقه أهلها من ديانات، وما كانوا يسيرون عليه من نظم ظهر أثرها فى تشيع الفرس لعلى بن أبى طالب وذريته، لأن الفرس كانوا يكرهون الأمويين الذين اغتصبوا السلطة من علىّ وترفعوا على غير العرب، ولأنهم -الفرس- كانوا يقدسون ملوكهم الذين كانوا يتوارثون العرش فيما بينهم على حين كان أهل السنة يرون -ولو نظرياً- أن السلطة من حق أى مسلم يختاره المسلمون. والذى يقال فى تأثير الثقافة الفارسية على الإسلام يقال فى تأثير الثقافات الهندية، واليونانية، والمصرية القبطية، واللاتينية. لقد تأثر الإسلام بعقلانية اليونان فظهر المعتزلة الذين أنكروا المعجزات، وقالوا إن القرآن مخلوق، وإن إعجازه ليس فى نظمه بل فى إخباره عن الغيب، وإن الإنسان حر مخير، وليس مجبراً ولا مسيراً. والفلسفة الإسلامية تدين بالكثير للفلسفة اليونانية، ولأرسطو وأفلاطون بالذات، كما نرى فى كلام الكندى عن المكان والزمان، والصورة والمادة، والحركة والطبيعة، والسببية، والعقل والنفس، وكما نرى فى تقديم ابن رشد للعقل واعتماده عليه حتى فى تفسيره للنصوص الدينية التى كان يرى ضرورة تأويلها لتتفق مع العقل. وأخيراً وليس آخراً، فالتصوف الإسلامى، وهو إنجاز عبقرى، يدين بالكثير للعقائد الهندية والرهبنة المصرية كما يظهر فى العشق الإلهى، والفناء فى الله، وإيثار الفقر على الغنى، والتخلى عن السلطة، والحرص على الطهارة والنقاء. وإذا كانت هذه التأثيرات قد ظلت محدودة فلم تطغ على العقائد الإسلامية الأساسية، ولم تخرج الشيعة والمعتزلة والمتصوفة من الإطار الذى يجمع بينهم وبين أهل السنة، فهى لم تكن محدودة فى فرق أخرى كالدروز، والعلويين، والبهائيين الذين بدأوا من الإسلام، لكنهم اتصلوا بعقائد أخرى امتزجت بعقيدتهم الإسلامية فظهرت هذه الفرق بعقائدها وشعائرها المختلفة. أريد أن أقول إن هذه الفرق التى ابتعدت عن الإسلام كما يعرفه أهل السنة ليست بعيدة عن التاريخ الإسلامى، وليست بعيدة عن الحضارة الإسلامية، فإذا كان من حق المسلمين السنة أو المسلمين الشيعة أن يدافعوا عن عقائدهم ويعتبروا أنفسهم ممثلين للإسلام الأول أو للإسلام الصحيح، فليس من حقهم أن يفرضوا عقيدتهم على هذه الفرق أو ينكروا عليها حقها فى أن تنتمى للحضارة الإسلامية. والأصوليون فى حربهم التى أعلنوها أخيراً على البهائيين يحتدون ويشتدون، حتى يبدو وكأنها المرة الأولى التى يعرف فيها الإسلام فرقة مخالفة. تاريخ الإسلام حافل بالفرق المخالفة، ومع ذلك فالإسلام لم يتأثر، ولم يتراجع، ولم ينحسر، بل اغتنى بهذا التنوع الذى فرضته أسباب تاريخية وشروط موضوعية لم يكن يستطيع أحد أن ينفيها أو يمحو أثرها. والإسلام ليس بدعاً فى الديانات والحضارات والفلسفات، والقوانين التى فعلت فعلها فى المسيحية، واليهودية، والبوذية. والماركسية هى القوانين التى فعلت فعلها فيه، مسيحية روما غير مسيحية مصر وغير مسيحية بيزنطة، واليهود القراءون غير اليهود السامريين، وماركسية ستالين غير ماركسية تروتسكى، وفوق أن التنوع قانون فالتنوع حرية، وليست هناك سلطة على وجه الأرض تستطيع أو يحق لها أن تمنع إنساناً من أن يعتنق ما يشاء من العقائد والأفكار. لكن هؤلاء الأصوليين لا يكتفون بإعلان الحرب على الفرق المخالفة، وإنما يعلنون الحرب على الجميع، لأنهم يرفضون العصر بكل ما فيه وبكل من فيه، من هنا رأيناهم يستغلون مكانهم فى مجلس الشعب ليخرجوا على الدستور، ويعتدوا على حقوق الإنسان، وينقضوا كل ما وقعناه وتعهدنا باحترامه من المواثيق الدولية. إنهم اليوم يجرمون البهائيين، ويتهمونهم بالكفر والإلحاد والإخلال بالأمن والعمالة للصهيونية، ثم لا يقفون عند هذا الحد، وإنما يطالبون بقتل المرتدين، ويصادرون الحقوق التى كفلها الدستور لكل المواطنين نساءً ورجالاً، مسلمين وغير مسلمين، ونحن لا نعرف غداً ماذا سيصنعون؟!