من فضل الله على هذا البلد أن فيه مجموعات من الشباب تعمل فى دأب وصمت لا تبغى شهرة ولا منصباً ولا تريد إلا مصلحة هذا البلد. وأغلب هؤلاء الشباب لا يعرفهم أحد ولا يعنيهم أن يعرفهم أحد. من فينا - الذين نسمى أنفسنا أحياناً بالمفكرين وأحياناً بالنخبة - يعرف شاباً اسمه «جمال غيطاس». هذا الشاب أعد دراسة عميقة وممتعة عن بناء الجداول الانتخابية وعن كيفية الوصول بصندوق الانتخاب لكى يكون معبراً عن الإرادة الحقيقية للشعب، ويبدو أن هذا الشاب يحسن بى الظن ويتصور أننى مثله ممن يعيشون هموم مصر وآلامها وآمالها، لذلك تكرم وأرسل لى الدراسة التى أعدها من أجل هذه الغاية: انتخابات سليمة، وصندوق انتخاب يعبر عن الإرادة الحقيقية للشعب. وسأورد هنا مقدمة هذه الدراسة فقط، وهذه المقدمة الجميلة تلقى ضوءاً واضحاً على الهدف منها. يقول جمال غيطاس: «عصر الديمقراطية الرقمية أدى إلى تخلى العملية الانتخابية عن بيئة العمل اليدوى، وانتقلت إلى بيئة عمل تسودها الحاسبات الإلكترونية وشبكات الاتصالات وشبكات المعلومات والبرمجيات المتقدمة والنظم العملاقة المتخصصة فى معالجة أحجام ضخمة من البيانات فى كسور من الثانية. وتتضمن الانتخابات كعملية متكاملة - أنشطة شتى كالحملات الانتخابية وأعمال الدعاية والتواصل مع الناخبين ونظم التصويت وتجميع وفرز وعدُّ الأصوات وإعلان النتائج، لكن أكثر المظاهر الرقمية التصاقاً وانطباقاً على الانتخابات، هو التغيير الذى حدث ويحدث فى العملية الانتخابية برمتها، بدءاً بنظم إعداد كشوف وجداول الناخبين ونظم التصويت وتجميع وفرز الأصوات وإعلان النتائج». هذه الأسطر العلمية الدقيقة والواضحة فى نفس الوقت تكشف عن هدف الدراسة وأظنه هدفاً نبيلاً يستحق الاهتمام والمتابعة. وتبدأ الدراسة باستعراض الأوضاع الحالية التى تجرى على أساسها الانتخابات وذلك باستعراض نصوص القانون رقم 73 لسنة 1956 الخاص بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية، وكذلك التعديلات التى جاء بها القانون رقم 173 لسنة 2005م. وتوضح هذه الدراسة العلمية أن المواطن - الناخب - هو المصدر الأساسى لتغذية النظام الانتخابى بالبيانات والمعلومات، وترى الدراسة أن هذا الوضع - الاعتماد على شخص الناخب فقط - أفرز خمسة مظاهر للتشوه والتزوير بالجداول.. كيف؟ (1) النصوص القانونية جعلت المواطن هو مصدر التغذية الرئيسى بالبيانات وعملياً: أحجمت قطاعات واسعة من المواطنين - ولا تزال تحجم - عن المبادرة وتسجيل أنفسهم بسبب : - سوء سمعة الانتخابات. - سوء المعاملة بأقسام الشرطة والسجل المدنى. - صعوبة الإجراءات. والنتيجة أن عدد المسجلين بالجداول أقل كثيراً من عدد الذين لهم حق التصويت. وهذه أول فجوة معلوماتية بالجداول الانتخابية نتج عنها مصدر للتشوه وعدم الدقة لا يمكن علاجه بالتنقية لأنه تشوه متعلق بالنقص فى البيانات وليس الخطأ فيها، وقد أتاحت هذه الفجوة فرصاً واسعة للقيد العشوائى لمواطنين بغير علمهم أو باختلاق أسماء وهمية وإضافتها للجدول على اعتبار أنها بيانات مواطنين سجلوا أنفسهم حديثاً. وتنتهى الدراسة إلى أن الأمر على هذا النحو ليس أمر تنقية الجداول الانتخابية، لأن أساس إعداد هذه الجداول هو أساس غير سليم وغير علمى. إننا لسنا بصدد جداول مطلوب تنقيتها ولكن بصدد بناء نظام كامل جديد لإعداد الجداول. وتقول الدراسة بالحرف الواحد: «إن أى حديث عن تنقية الجداول دون الحديث عن تعديل نظام بناء الجداول، وجمع وتداول ومعالجة البيانات المستخدمة فيها، هو حديث يصب فى صالح التزوير لا النزاهة». والرأى عند جمال غيطاس وزملائه إذا أردنا إصلاح نظامنا الانتخابى وإذا أردنا أن نعرف إرادة الناس على حقيقتها فلابد من أن تنشأ قاعدة بيانات انتخابية قومية تستخلص بياناتها من قاعدة بيانات الرقم القومى، وهى قاعدة موجودة بالفعل وليست محتاجة إلى جهد جديد - قد تكون محتاجة إلى بعض التحديث ولكن القاعدة موجودة - وعلى ذلك يكون الرقم القومى هو المفتاح أو الكود الأساسى لتعريف وتمييز هوية المواطن، داخل قاعدة البيانات القومية الانتخابية، وداخل كشوف الناخبين، وليس أى رقم أو كود تعريف أو مرجعية أخرى. ويقول أصحاب هذه الدعوة البسيطة والواضحة: هل يستطيع أحد أن يقول لنا إننا لا نُريد الرقم القومى ولا نهتم به، لا أحد يجرؤ على أن يقول ذلك صراحة، ولكن لأننا نعيش فى مجتمع أدمن الكذب والنفاق، فإننا سنقول فى العلن مرحباً بالرقم القومى، ولكننا عند الفعل سنحرص على تجنب الرقم القومى، وسنعد الجداول الانتخابية على نحو ما تعد به الآن لكى يمكننا ذلك من إظهار ما نُريد وإخفاء ما نُريد. وبعد أن كتبت مقالى السابق بعنوان «صندوق الانتخاب هو البداية» جاءتنى تعليقات عديدة من القراء، قد يحسن أن أشير إلى بعضها فهى تعكس أحاسيس الناس. وسأبدأ بتعليق جاءنى من الزميل الأستاذ الدكتور/ جورجى شفيق سارى، أستاذ القانون الدستورى بجامعة المنصورة يقول فيه: «أعتقد أن مأساة مصر أن حكامها والمسؤولين فيها ركزوا على إلهاء المواطن بلقمة عيشه، ولم يعيروا بالاً ولا اهتماماً لتنمية الوعى لديه، خاصة الوعى السياسى حتى يستطيع أن يحسن الاختيار إذا ما أتيحت له فرصة الاختيار الحر»، ويختم تعليقه بقوله: «لا بديل عن الاهتمام بزيادة الوعى لدى المواطن المصرى فهذا هو الأساس لكل بناء سليم فى تقديرى». ويعلق الدكتور مصطفى شلبى على نفس المقال قائلاً: «بالله عليك لو أن مصر اُحْتُرِمت فيها إرادة الناس منذ عام 1924، كم من الفاسدين والمفسدين كان صندوق الانتخابات سيجعلنا لا نعرفهم، لو أن صندوق الانتخابات كان محل احترام منذ ذلك الوقت - 1924 - لكانت مصر الآن مثل اليابان وإنجلترا والسويد». وينحى الدكتور مصطفى شلبى باللائمة على انقلاب 1952 - على حد تعبيره - ويحمله مسؤولية ما نحن فيه. وتعليق ثالث لمن أراد أن لا يذكر اسمه، ويبدو أنه ضد صندوق الانتخاب وضد إرادة الناس أصلاً، ذلك أنه يقول: «إن الانتخابات الحرة النزيهة قد جاءت يوماً بالنازى إلى الحكم، وكان فى ذلك تهديد بدمار العالم أجمع. ويضيف صاحب التعليق قائلاً فى إشارة واضحة إلى تيار الإسلام السياسى: «إن البنية المجتمعية وميولها يمكن أن تتأثر بخطاب حماسى أو عاطفى يقودها إلى سوء الاختيار». وهذه الوجهة من النظر لا تؤمن أساساً بالنظام الديمقراطى وأنه النظام الوحيد القادر على تصحيح نفسه بنفسه، دعونا لا نخشى الديمقراطية، فلا حل غيرها، حتى وإن لم تكن خيراً محضاً، ودعونا نقرر أن الديكتاتورية لم تأت بخير قط لا للشعوب ولا للحكام. هذه بعض التعليقات التى جاءتنى على مقالى السابق، وهى تمثل وجهات نظر متعددة. ولكنى أعود لأصحاب هذه الدراسة الجادة التى دفعتنى إلى إعادة الكتابة فى الموضوع لكى أقرر أن إعجابى بها لم يدفعنى فحسب إلى كتابة هذا المقال، مستلهماً ما جاء بها، وإنما دفعنى أيضاً إلى أن أرسل الدراسة التى وصلتنى كلها إلى الأستاذ الدكتور أحمد فتحى سرور، رئيس مجلس الشعب لعله يدفع بها إلى طريق النور حتى ولو كان طويلاً، فذلك أفضل من الظلام الدائم المخيف والعياذ بالله.