تبدأ الاختلافات فى الرأى فى أوطاننا عادة بترديد ببغائى للعبارة «الاستامبة» (الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية)، وتنتهى بالبحث عن أقرب محام ليرفع قضية سب وقذف على شركاء الود الذى لفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن دهسه اختلاف عابر. كل الذين خسرتهم فى حياتى كانوا أصدقاء قريبين إلى القلب، طبعا، وهل يخسر الإنسان شخصا غير قريب إلى قلبه، كلهم كانوا مؤمنين مثلى بالحرية والديمقراطية والاختلاف فى الرأى، وكلهم كانوا يرددون مثلى تلك العبارة التى صرت كلما سمعتها تطيرت وبدأت أستعد لقراءة الفاتحة على الود. أكيد ياما حصل ذلك معك كما حصل معى. أحيانا أعمل مع صديق على مشروع ما فنعيش أياما من الود الصافى ترفرف قلوبنا فى ظلها، نقول لبعضنا وعن بعضنا أشعارا تستوجب مسك الخشب وتعليق الخرز الأزرق، وعندما نختلف كما هى سنة الحياة ويعتذر أحدنا عن استكمال العمل مع الآخر، نتحول نحن الإثنين فجأة إلى شياطين تستأهل الحرق، وتظهر فجأة فى كل منا عيوب الدنيا، فنلعن سويا الأيام التى عرفنا بعضنا فيها، وإذا تقابلنا فى مكان ما سارعنا فى البحث عن باب بعيد للخروج بعد أن كنا نندفع نحو أحضان بعضنا البعض، وإذا جاءت سيرة أحد منا فى محفل ما لوى الواحد منا بوزه ولم يترك فى الآخر نقيصة إلا وأحصاها مع أننا دائما نبدأ كلامنا بالعبارة الاستامبة الأخرى «بلاش نتكلم فى سيرة الناس ربنا يسهل له.. تخيل إن الحيوان ده...»، وهلمّ ذما وقدحا وطعنا. لى أصدقاء أعلم أنهم يكرهون الطغيان والاستبداد كراهية التحريم، لكنهم عندما يتعرضون للانتقاد ينفتح قفص طغاة صغار من داخلهم لينقضوا عليك بمناقيرهم، ولأنى أحبهم أضحك كثيرا عندما أجدهم يصفون من ينتقدهم بأنه «شتام» ويصفون انتقاداته بأنها شتائم، أضحك لا سخرية منهم بل لأنهم لم يقنعونى أبدا وهم يعيشون فى دور قافلة تسير والكلاب تنبح، ويرددون نفس الكلام الذى يردده المستبدون الذين يتعاملون مع المعارضة على أنها قضية شخصية، ومع الآراء على أنها سهام تهدف للنيل من أشخاصهم. كثيرا ما أسمع هذه الجملة من فنان أو مثقف أو شخصية عامة «فلان شتمنى»، أستفظع الأمر وأعود لما كتبه فلان فأجده نقدا عاديا أو حادا أو سخيفا أو قاسيا بعشم أو قاسيا بِغِلّ، لكننى لاأجد أبدا فيما كتبه شتيمة، فأعود لصاحب الشأن لأتأكد مما إذا كان قد قرأ ما كتب عنه أو نقل إليه، والمؤسف أننى أجده غالبا قرأ ما كتب عنه لكنه اعتبره شتيمة لا نقدا. ما أعرفه أن الشتيمة هى أن تصف شخصا بأنه طويل وأهبل أو تخين فشلّة أو ابن كلب أو حقير أو سافل أو واطى، يعنى لن أستعرض لك قاموس الشتائم لكى تفهم قصدى، باختصار الشتيمة كما يقول القانون هى تلك الكلمات التى لو نسبت إليك لأوجبت احتقارك لدى أهل وطنك، وضع تحت كلمة «احتقارك» ألف خط، أو اكتف بخط واحد إذا لم يكن لديك وقت، صحيح أحيانا تختل الموازين لدينا فنتخيل أن الأشطر فى الاختلاف هو الذى يقوم بتجريس الآخر وجعل الذى مايشترى من بنى وطنه يتفرج عليه، لكن من قال أننا يجب أن نحتكم فى حياتنا إلى أخلاق المستبدين وسلوك المختلين وطبائع المخبرين وشيم أهل النقص وإن ادعوا الكمال. المشكلة يا جدعان أننا جميعا ولا أستثنى أحدا بمن فيهم أنا نشكو من الاستبداد ونحن نواصل تزغيط وتضخيم وبروزة المستبد الذى بداخلنا. لست أنا الذى أقولها. دونك العظيم عبد الرحمن الكواكبى أستاذ جراحة الاستبداد الأول فى كتابه الخالد (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) وهو يجيب لك وعليك من الآخر «إذا سأل سائل لماذا يبتلى الله عباده بالمستبدين، فأبلغ جواب مسكت هو أن الله عادل مطلق لا يظلم أحدا، فلا يولى المستبد إلا على المستبدين، ولو نظر السائل نظرة الحكيم المدقق لوجد كل فرد من أسرى الاستبداد مستبدا فى نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كلهم حتى وربه الذى خلقه تابعين لرأيه وأمره، فالمستبدون يتولاهم مستبد والأحرار يتولاهم الأحرار وهذا صريح معنى كما تكونوا يولى عليكم». مع خالص مودتى للأصدقاء الذين حاولوا قتل ودهم لى بعد خلافى معهم وأغلب الظن أنهم سيفشلون فى ذلك، لأن ودى كالقطط بسبع خلافات. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]