عيار 21 بكام.. ارتفاع أسعار الذهب الأحد 25-5-2025 في مصر    أضاحي العيد 2025.. أسعار العجالي والضأن والماعز في أسواق الشرقية    سعر الدولار اليوم الأحد 25 مايو 2025 في 4 بنوك    مقتل 6 أشخاص بينهم المدير الموسيقي ديف شابيرو في حادث تحطم طائرة    بيان مهم بشأن الطقس والأرصاد تكشف موعد انكسار الموجة الحارة: انخفاض 10 درجات    نموذج امتحان الجبر والهندسة الفراغية الثانوية الأزهرية 2025.. تفاصيل امتحانات طلاب الأزهر    ما هو ثواب ذبح الأضحية والطريقة المثلى لتوزيعها.. دار الإفتاء توضح    أوكرانيا.. 15 صاروخا من طراز "كاليبر" تتجه صوب العاصمة كييف    نشرة أخبار ال«توك شو» من المصري اليوم.. مرتضى منصور يعلن توليه قضية الطفل أدهم.. عمرو أديب يستعرض مكالمة مزعجة على الهواء    الدفاعات الجوية الروسية تدمر 8 مسيرات أوكرانية فوق أجواء مقاطعة تفير    عاصفة تهز سوق العملات الرقمية.. أكثر من 100 مليار دولار تتبخر في ساعات    إعلام: عطل في اتصالات مروحية عسكرية يعطل هبوط الطائرات في واشنطن    مصرع ميكانيكي سقط من الطابق الخامس هربًا من الديون بسوهاج    كشف قدرات كتائب القسام، ضابط إسرائيلي يرد على تصريح نتنياهو عن "الصنادل والنعال"    مي عبد الحميد: تنفيذ أكثر من 54 ألف وحدة إسكان أخضر.. ونستهدف خفض الطاقة والانبعاثات    القبض على 3 شباب ألقوا صديقهم في بيارة صرف صحي ب15 مايو    خبير اللوائح: أزمة القمة ستسمر في المحكمة الرياضية الدولية    الكشف الطبي على 570 مواطنًا خلال اليوم الأول للقافلة الطبية    مستشفى دمياط التخصصي: حالة الطفلة ريتال في تحسن ملحوظ    نجاح أول جراحة «ليزاروف» في مستشفى اليوم الواحد برأس البر    نائب إندونيسي يشيد بالتقدم الروسي في محطات الطاقة النووية وتقنيات الطاقة المتجددة    قانون العمل الجديد من أجل الاستدامة| مؤتمر عمالي يرسم ملامح المستقبل بمصر.. اليوم    بعد فيديو اعتداء طفل المرور على زميله بالمقطم.. قرارات عاجلة للنيابة    ياسمين رضا تترك بصمتها في مهرجان كان بإطلالات عالمية.. صور    هل يتنازل "مستقبل وطن" عن الأغلبية لصالح "الجبهة الوطنية" في البرلمان المقبل؟.. الخولي يجيب    هل يجوز شراء الأضحية بالتقسيط.. دار الإفتاء توضح    استشهاد 5 فلسطينيين فى غارة للاحتلال على دير البلح    الجيش الإيراني يؤكد التزامه بحماية وحدة أراضي البلاد وأمنها    إلغوا مكالمات التسويق العقاري.. عمرو أديب لمسؤولي تنظيم الاتصالات:«انتو مش علشان تخدوا قرشين تنكدوا علينا» (فيديو)    المخرج الإيراني جعفر بناهي يحصد السعفة الذهبية.. القائمة الكاملة لجوائز مهرجان كان    «هذه فلسفة إطلالاتي».. ياسمين صبري تكشف سر أناقتها في مهرجان كان (فيديو)    قساوسة ويهود في منزل الشيخ محمد رفعت (3)    النائب حسام الخولي: تقسيم الدوائر الانتخابية تستهدف التمثيل العادل للسكان    "القومي للمرأة" يهنئ وزيرة البيئة لاختيارها أمينة تنفيذية لإتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر    زيلينسكي: المرحلة الثالثة من تبادل أسرى الحرب ستُنفذ الأحد    "إكس" تعود للعمل بعد انقطاعات في الخدمة امتدت لساعات    "دفاع الشيوخ": قانون الانتخابات يرسخ مبادئ الجمهورية الجديدة بتمثيل كافة فئات المجتمع    "العربية للسياحة" تكشف تفاصيل اختيار العلمين الجديدة عاصمة المصايف العربية    «أضرارها تفوق السجائر العادية».. وزارة الصحة تحذر من استخدام «الأيكوس»    "بعد إعلان رحيله".. مودريتش يكشف موقفه من المشاركة في كأس العالم للأندية مع ريال مدريد    بعد غياب 8 مواسم.. موعد أول مباراة لمحمود تريزيجيه مع الأهلي    حلم السداسية مستمر.. باريس سان جيرمان بطل كأس فرنسا    ميلان يختتم موسمه بفوز ثمين على مونزا بثنائية نظيفة في الدوري الإيطالي    نائب رئيس الوزراء الأسبق: العدالة لا تعني استخدام «مسطرة واحدة» مع كل حالات الإيجار القديم    ناجي الشهابي: الانتخابات البرلمانية المقبلة عرس انتخابي ديمقراطي    نسرين طافش بإطلالة صيفية وجوري بكر جريئة.. لقطات نجوم الفن خلال 24 ساعة    استقرار مادي وفرص للسفر.. حظ برج القوس اليوم 25 مايو    «أحدهما مثل الصحف».. بيسيرو يكشف عن الفارق بين الأهلي والزمالك    ميدو: الزمالك يمر بمرحلة تاريخية.. وسنعيد هيكلة قطاع كرة القدم    وأنفقوا في سبيل الله.. معانٍ رائعة للآية الكريمة يوضحها أ.د. سلامة داود رئيس جامعة الأزهر    رمضان عبد المعز: التقوى هي سر السعادة.. وبالصبر والتقوى تُلين الحديد    بيسيرو: رحيلي عن الزمالك لم يكن لأسباب فنية    الصديق الخائن، أمن الأقصر يكشف تفاصيل مقتل سائق تريلا لسرقة 6000 جنيه    «الداخلية» تكشف تفاصيل حادث انفجار المنيا: أنبوبة بوتاجاز السبب    رحلة "سفاح المعمورة".. 4 سنوات من جرائم قتل موكليه وزوجته حتى المحاكمة    للحفاظ على كفاءته ومظهره العام.. خطوات بسيطة لتنظيف البوتجاز بأقل تكلفة    أسماء المقبولين في مسابقة 30 ألف معلم فصل المرحلة الثالثة.. جميع المحافظات    فتاوى الحج.. ما حكم استعمال المحرم للكريمات أثناء الإحرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بالفيديو.. حكايات من رحم «كارثة أسيوط» في أربعين «عصافير الجنة» (ملف خاص)
نشر في المصري اليوم يوم 27 - 12 - 2012

صباح لم يكن كغيره من الصباحات في تلك البقعة من بقاع الصعيد التي كانت شاهدة وقبل أكثر من أربعين يوماً على رحيل 48 من زهرات القلوب وفلذات الأكباد لعشرات الأسر الصعيدية التي حلمت بغد أفضل لها ولأولادها في مصر التي حلموا بمستقبل أولادهم على أرضها، لكنهم لم يكن ليدركوا أن الرياح غالبا ما تأتي بما لا تشتهيه سفن الأمل والرجاء، فراح «عصافير الجنة» ضحية إهمال لا ذنب لهم فيه، في صورة بشعة جسدتها «كارثة» كانت العنوان الأبشع لتراكمات الإهمال في بلدنا الذي مازال يحبو في خطواته نحو مصرٍ جديدة ربما كانت ستصنع لتلك الزهرات مستقبلا مختلفا.
الآن وبعد 40 يوما من «كارثة أسيوط» التي راح ضحيتها 48 طفلا وسائق ومعلمتين، لا زال هناك الكثير ليروى. «المصري اليوم» حاولت اختراق حاجز الحزن واستكشاف آثاره بعد 40 يوما لعل ذلك يكون جزءا من تسرية أهالي الشهداء عن حزنهم أو ربما طاقة نور تمنع تكرار مثل تلك الكارثة.
«محمد وأحمد وهاشم».. حضور بالتفاصيل رغم الرحيل
في إحدى المنازل الريفية بقرية الحواتكة بأسيوط، لم يعد هناك متسع لصخب ومرح كانا يوماً حاضرين في تلك القرية التي فقدت 3 من أبنائها في «كارثة أسيوط» التي قضت على غيرهم من الأطفال.
على عتبة أحد المنازل، تجلس العجوز مولية ظهرها لأطفال يقطعون الشارع ذهاباً وإيابا أثناء لعبهم، تجلس بصحبة صمت المكان وحزنها الذي تنم عنه ملابسها السوداء، ويعلن هو عن نفسه ما إن تشرع في الحديث، فكلمات العجوز يصعب على الأذن تفسيرها، لا للهجتها الصعيدية، لكن لامتزاجها بدموع مريرة سببها حزنها على ثلاثة أحفاد رحلوا، تحت عجلات قطار.
عن الشهداء الثلاثة «محمد وأحمد وهاشم»، تقول الجدة العجوز، باكية: «أنا من قمت بتربيتهم، لم يفارقوا حجري صغاراً ولا حضني كباراً، وكانت خطواتهم تلازم خطاي في أي طريق، حتى ذهب الثلاثة دفعة واحدة، دوني».
عكس الجدة المكلومة، يأبى الهدوء وشيء من ابتسامة، مفارقة وجه الأب أشرف هاشم، رقيب الشرطة، وهو يتحدث عن أبنائه ضحايا حادث قطار أسيوط، محمد 13 عاما، وهاشم 12 عاما، وأحمد 10 أعوام.
يستعيد، الأب، تفاصيل يوم الحادث، ثم يصمت لثوان، غالبت عينيه فيها دموع، ثم يتابع بعد لحظات أخرى من الصمت، قائلا :«كان ثلاثتهم بالنسبة لي أغلى من روحي، وكثيراً ما تمنيت لو وقع لي الحادث بدلاً منهم، فإلى الآن لا أعرف كيف أصف إحساسي، ولن يكفيني الحزن لبقية عمري، إنما هذا قضاء الله، وأحمده أن كتبهم من السعداء بعودتهم إليه وهم أبرار، خارجين في سبيل العلم».
عن حياته بعد أربعين يوماً من رحيلهم، يقول: «مقابرهم في طريق عملي، وأقوم بزيارتهم يومياً في ذهابي وإيابي، وبعد قراءة سورة الملك على أرواحهم، أبدأ في الحديث والمزاح معهم، وأناديهم كما في حياتهم، فأقول للكبير (يا محمد يا آية، يا أبو عيون حكاية) لجمال عينيه، أما هاشم، الذي كان يريد أن يظهر تفوقه على أخوته، فأناديه باسمه الثاني وأقول له (يا محمود يا شاطر)، وأحدثهم جميعاً عن أيامنا بعدهم، وأطمئنهم على حال البيت الذي مازلت أشعر بوجودهم فيه».
شعور الأب بعدم غياب أبنائه الشهداء، واستمرار حضورهم في التفاصيل، كان، بالنسبة لزوجته، ملموساً.. ففي الطابق الثاني للمنزل، تصدح التواشيح بصوت طفليهما الشهيد محمد، الذي جلست والدته بجوار صوره وأخوته المعلقة على الحائط، وأمام جهاز الكومبيوتر يشاهدان تسجيل حفلة دينية كان مشاركاً بها.
تحكي «والدة الشهداء»، كما عرفت نفسها، عن سويعات ما قبل الحادث، ثم سرعان ما تبدأ في سرد بعض من ذكرياتها مع أطفالها، قائلة: «جميعهم كانوا مهذبين ويتميزون بطيبة القلب والحنان، فدائما ما كان أحمد يحتضنني بشدة، ويقول لي مبتسماً كلما عنفته على ذلك، (ياماما من الحب ما قتل)، وأذكر جيداً أني وعدته قبل الحادث، أن أشتري له بندقية، كان يريدها إذا ما تفوق في الامتحانات، بينما كان هاشم يقول لي (لما أكبر، هاجيبلك لبس وحاجات حلوة)».
وتواصل: «أما كان محمد، فقد كان سندي وكبيري، كان أكثر إخوته غيرة علي، ويشعر بصعوبة حالتنا المادية، فكان يعود بمصروفه كما هو، بل أحيانا بمبلغ أكبر منه بعد مكافئته في مسابقات تلاوة القرآن، فمن حلاوة صوته كان الباعة حولنا يشترطون عليه قراءة آيات من القرآن لهم، قبل أن يبيعوه شيئاً، وكان يقول لي دائماً (ياماما هانصفك واجيبلك كل ما تتمنيه)، وهاهو يصدق وعده لي هو وأخوته، فلا يوجد إنصاف أكثر مما أنا فيه الآن».
«مصطفى».. سر عمه وصاحبه الغائب
مازالت دموع الرجل قادرة على التدفق بصحبة الكلمات كلما تحدث عنه، فهو بالنسبة له، الحاضر رغم الغياب، فقد كان الصغير عوضاً للشقيق عن شقيقه الوحيد الذي توفي في حادث سيارة أيضاً منذ ست سنوات، وها قد شابه الطفل أباه.. كان الطالب «الشهيد مصطفى» بالنسبة لعمه، الذي مازال يبكي بعد أربعين يوماً على الرحيل هو «الابن والأخ والصديق»، هو «وحيده ابن وحيده»، لذا فلا عجب من أن يرفض الرجل التعويضات، ويغلق الأبواب على متعلقات الصغير، في محاولة لمنع أحزانه التي لا يبددها، ولو لقليل، سوى زيارته لقبره.
عن الشهيد علام علي، الشهير ب«مصطفى»، 8 سنوات، يقول عمه، محمد أحمد: «توفي أخي الوحيد في حادث سيارة، تاركاً لي ولده (مصطفى)، وهو الاسم الذي كنت أناديه به، منذ أن كان عمره عامين. حينها شعرت بأن الله عوضني به عن أبيه، فقد كان ابن أخي وصديقي وأخي».
لازمت صدمة رحيل «مصطفى» عمه إلى الآن، حسبما ذكر في حديثه ل«المصري اليوم»، فهو إلى الآن لا يصدق فكرة رحيل صغيره، مواصلاً حديثه: «الغريب أنني، وأنا في قمة صدمتي وحزني على رحيله، فرحت ببساطة الإصابة، وأن ابني (مااتبهدلش) رغم أنه، بكل الأحوال، ميت، إنما تعزيت بأن جسده سليم، فقد كنت ومازلت مشفق عليه من فزعة سماعه لصوت الأتوبيس أو رؤية القطار».
عن ذكرياته، مع ابن أخيه الراحل، يحكي، قائلاً: «كان لمصطفى وضع خاص بالنسبة لي، فرغم أني أب لسبعة أطفال، كانوا يلقبونه ب(الحاج مصطفى) ويطيعونه في كل شئ، كبيرهم قبل صغيرهم، إلا أن مصطفى كان له محبة مختلفة، حتى حضنه كان مختلفاً عن حضن أبنائي، وكان دائما يقول لي (يا عمي عايز تروح الجنة، احضني وانت تروح)».
رغم عدم رؤيته له قبل الحادث، إلا أنه اهتم بمعرفة حاله وقتها، قائلاً: «آخر يوم رأيته فيه كان، الخميس، وكان يلعب مع أبنائي الذكور، ويقول لهم جملته الشهيرة (أنتم أربعة، وأنا معايا عمي)، فقد كان يشعر أنني بالنسبة له قيمة كبيرة. أما يوم الجمعة، فقد حكى لي ابني أنه طلب منه أن يحمله على كتفيه، من أول الشارع ويسير به وصولا إلى المنزل ليطوف به داخل غرفه وصولاً لسطحه».
ويضيف: «منذ وفاته إلى الآن، أزوره كل جمعة، وكما كنت أتحدث مع أبيه، أصبحت أتحدث وأبكي إليه هو أيضاً، ليس اعتراضا على قضاء الله، لكن لأني كنت أريده بجواري، فقد كان (صاحب يتصاحب)، وحتى هذه اللحظة (فيه أسرار في القول اللي بأقوله لمصطفى)، كما أستعين به وأخي على همومي، وأسأله دائماً عن حاله وهل هو غاضب مني في شئ، وأحياناً أنتظر رده ليطمئنني ويقول لي (يا عمي أنا بخير)».
زيارة مصطفى في قبره، تبدو للرجل أكثر أريحية من الجلوس بين جدران منزل لا يضمه، حيث يقول العم محمد، وهو ممسكاً بصورة يحتضن فيها الصغير، وقت أن كان ابن عامين: «بعد كل زيارة أعود من المقابر بنفس هادئة، فوحده الله يعلم، أنني منذ الحادث لا أنام ولا يفارقني الحزن، ومنذ رحيله أعيش حياتي على أمل أنني في نهايتها سأذهب لمصطفى، وأملي أن يكون يومها في حضني، فمازال هو مصدر راحتي حتى بعد رحيله».
رغم استرساله في الحديث عن الصغير الراحل، إلا أن رفضه كان قاطعاً لطلب رؤية أشياؤه، قائلاً: «رؤية متعلقاته تعود بي من جديد للحظة الفقدان التي هدمت ما كنت أخططه له، فقد كنت أوصيه بالاجتهاد ليصبح طبيباً وقد وعدته بسيارة عقب انتهائه من الدراسة، حتى لو كلفتني ما أملك، كما اتفقت معه على أن أزوجه في سن مبكرة وقبل جميع أبنائي، ويكون فرحه هو الوحيد الذي أرقص فيه، لذلك فكرة قبول أي تعويضات عن وحيدي ابن وحيدي، مرفوضة تماماً، فليتيني فقدت كل ما أملك وبقي معي حبيبي (درش)».
«خليفة».. جدته توقظه صباحاً ووالده يزور قبره ليلاً
يقف الرجل، في نقطة وسط ما بين بيته والمزلقان، طارحاً أسئلته الاعتراضية، وعارضاً افتراضاته الخاصة باحتمالية نجاة صغيره من الموت سحقاً بين عجلات قطار وحديد أتوبيس، يتذكر في ثبات ما صار وكان ثم يعود للتساؤل. يتحدث عن حال والدته، بعد رحيل طالب الصف الثاني الابتدائي عن الدنيا، وكيف أنها مازالت إلى الآن تنادي حفيدها كل صباح ليذهب لمدرسته، ليتحول بغضب للحديث والتساؤل عن وعود المسؤولين والتي «تبخرت» بعد بضعِ وثلاثين يوماً فقط، من الحادث.
«لماذا لم تجر الأمور على نحو آخر؟»، هكذا كان ينطق لسان حال، سعد إبراهيم، والد الطفل الشهيد خليفة «8 سنوات» وأحد طلاب الصف الثاني الابتدائي، أثناء حديثه عن حادث قطار المندرة، والذي بدأه بما يبدو اعتراضاً على الواقع، وتأكيداً لأنه كان من الممكن ألا يكون لولا أنه إرادة العلي القدير.
يحاول الأب استرجاع ذكريات اليوم، فيقفز من ذهنه إلى لسانه أحد التساؤلات مرة أخرى، ليقول: «لماذا لم يتأخر أياً من الأتوبيس أو القطار عن المرور ولو لخمس دقائق؟ وماذا لو كان طفلي في موقع بعيد عن الاصطدام ليقتصر الأمر على إصابة دون وفاة؟»، ورغم تساؤلاته، وتأكيده أنه يزور قبره كل ليله، إلا إنه يعترف بأنه «ليس الأكثر حزناً على فراق ابنه، ولا حتى والدة الطفل» فحزن الجدة، بحسب قوله، فاق الجميع.
عن أحزان السيدة العجوز، التي تعذر اللقاء بها لسوء حالتها النفسية، يقول: «جدته انتهت تماماً بعد الحادث، فهي التي قامت بتربيته منذ أن كان عمره ثلاثة أشهر، وكان كليهما متعلقاً بالآخر بشدة، وكان خليفة يتشاجر معنا ويصر على الذهاب إليها إذا ما حاولنا أن نقنعه بالبقاء معنا، لهذا لم تعتد جدته على فراقه، وكلما تركناها الآن ولو لدقائق، نعود لنجدها منهارة باكية».
ويضيف: «منذ رحيل ابني، نستيقظ فجر كل يوم على صوت جدته تناديه قائلة (تعالى يا خليفة ألبسك، علشان تروح المدرسة)، كما تسأل، في موعد عودته عنه، وتقول (خليفة اتأخر في المدرسة وأنا قلقانة عليه)، وحتى الآن لم تفلح محاولات تهدئتنا لها، رغم علمها برحيله، كما تصر على زيارته يومياً، حيث تقوم بتوزيع البرتقال والقصب وبقية ما كان يحب من أطعمة، على روحه، وهو ما أفعله أنا مع الأطفال كلما زرت المعهد».
«حسبنا الله ونعم الوكيل، لمن سأحمل المسؤولية؟».. هكذا يجيب عن التساؤلات حول المسؤول عن الحادث، قائلاً: «هل نحملها لمدير المعهد وهو رجل مهمته التعليم، أم لسائق الأتوبيس، الذي كان من أطيب الناس ولقي حتفه مع أولادنا»، «أما الحكومة فماذا لديها لتقدمه، نسمع منها وعوداً كثيرة دونما تنفيذ، ولا أحد يتوقع أو ينتظر أن تفعل له شئ، فالحال سيبقى على ما هو عليه، والجديد مثل القديم واليوم مثل الغد. ومن وقت الحادث إلى الآن لم يغيروا شيئا».
ويتابع «سعد»: «أكبر مخاوفنا من الإهمال، فقد تكلمنا مائة مرة عن سوء حال السكك الحديدية والمزلقانات، وضرورة إصلاحها وتأمينها، لكن ما حصلنا عليه من وعود، وقت تعدد زيارات المسؤولين أثناء وبعد الحادث، لم يتم تنفيذها بعدما هدأت الأوضاع. حتى ما تردد عن توظيف أسر الشهداء لم يحدث، كما أن التعويضات لم يصرف منها سوى الخاص بالرئاسة، بجانب تبرعات من الخارج».
«المعهد الأزهري».. 40 يوما من الغياب ومحاولات متواصلة للتناسي
15 كيلو مترا تقريباً، هي المسافة التي كان الطلاب الشهداء، يقطعونها مرتين يومياً، بين قراهم ومعهد «نور الأزهر النموذجي الخاص» على مدار أعوام دراسية مضت وبانتظام حتى يوم رحيلهم. لا أحد سوى التلامذة الراحلين يعلم تحديداً، ما الذي كانوا يفعلونه لقتل الوقت والتغلب على مشقة الانتقال من البيت إلى المزلقان ومنه إلى طريق ممهد، يسلمهم لآخر ريفي بدائي محاط بالحقول، ومنه إلى قرية «بني عدي» التي تسكن على أطراف الجبل، وكذلك معهدهم، الذي أصبح اسمهم في دفاتر حضوره، إذا ما كان مسجلاً بها إلى الآن، يتميز عن أقرانهم الأحياء، بوضع حرف «غ» في إشارة إلى الغياب الذي خلف فراغا ب 48 مقعداً.
بمجرد الدخول من باب المعهد، لا صوت يعلو فوق صوت لهو الأطفال في ساحته، وكأنها محاولة لنسيان وربما تناسي ما وقع لأكثر من 40 من أقرانهم، وهي المحاولة التي تفسدها عبارات مكتوبة على لافتة سوداء معلقة على المبنى الرئيسي للمعهد، تقول «تتقدم إدارة معهد نور الأزهر بخالص الشكر والتقدير، لكل من تقدموا بمواساتهم بمصابهم الأليم بالعزاء أو الاتصال أو الدعاء.. ولا أراكم الله مكروهاً في عزيز لديكم»، ونفسها محاولات التناسي هذه، هي ما جعلت من لقاء مسؤولي المعهد أمراً غير مرغوب فيه بالنسبة لهم، لأنهم «يحاولون طي هذه الصفحة من عقل الطلاب».
بينما يلهو الأطفال خارج مكتبه، تحدث محمد عبد العزيز حافظ، مدير «معهد نور الأزهر النموذجي»، «أبنائنا المصابين، انتظموا في الدراسة وأدوا الامتحانات فور تماثلهم للشفاء، وحرصنا طيلة الفترة الماضية على محو ما كان من أذهانهم، وكنا نعاملهم بهدوء ودبلوماسية، لنصل لمستوى عقولهم ونزيل عنهم الألم، كما اجتهدنا في فتح كافة مجالات الأنشطة، لمحاولة محو الحالة السيئة، وتدريجاً بدأوا في اللهو والاندماج مع أقرانهم».
يحمّل «حافظ»، مسؤولية ما وقع للتلاميذ الشهداء، لهيئة السكك الحديدية، قائلاً: «ليس علينا مسؤولية، وهيئة السكك الحديدية هي الأساس، وهي مدانة مدانة، فمن المفترض أن يطلق سائق القطار سارينة من مسافة 3 كيلومترات للتنبيه، وهو ما نفى حدوثه الأطفال الناجين» مضيفاً «رغم هذا تكال إلينا التهم، عن تكدس 70 أو 80 طفل في الأتوبيس، وقت الحادث، وهو ما يعد تهويلاً، فقد حدث عطل للأتوبيس الآخر الذي يقل الطلاب، فقام هذا الأتوبيس بنقلهم، كما أن أحجام الطلاب صغيرة للغاية، وكان الأتوبيس متسعاً لهم».
وعن آلية نقل الأطفال في المستقبل، يقول: «حتى يومنا هذا، يقوم أهالي المندرة بجلب أبنائهم للمعهد، وذلك لحين الإتيان بأتوبيس بديل، وللعلم، عندما نأتي بغيره سيسير في نفس الطريق، لأن ما وقع كان قضاء وقدر، ولا علاقة له بالطريق نفسه».
واختتم حديثه، ناعياً الطلاب الشهداء، قائلاً: «كل أطفالنا الذين فقدناهم حافظين كتاب الله، ورأيت منهم من كان ممسكاً بالقرآن بين يديه وهو جثة هامدة، وندعو الله أن يلهم أهلهم، الذين مازلنا على تواصل معهم، الصبر والسلوان».
«مزلقان المندرة».. محاصر ببقايا الحادث ويتمسك بالآلية القديمة
حقيبتان مدرسيتان ممزقتان، مازال لونيهما الأزرق والوردي، يصارعان للبقاء أمام محاولات أشعة الشمس لتغييبهما، تجاورهما «فردة حذاء» لطفل صغير، ويرقد ثلاثتهم بجوار بعض من حطام أتوبيس المعهد الأزهري، الذي يجاور قضبان القطار.. هذا المشهد الذي يطالع المارة على بعد اثنين كيلومترين تقريباً عن «مزلقان المندرة»، حيث وقع الحادث.. الطريق الضيق الرابط بين قرى «الحواتكة، المندرة، وبني عدي» المؤدي للمزلقان، والذي أكد عدد من أسر الشهداء أنه لم يُمهد إلا بعد الحادث بأيام، محفوف ببقايا وذكريات، يحاول المارة بسياراتهم أو أبنائهم ودوابهم، تجاهلها، وكأنه لم يكن هناك حضور مخيف لموت، اختطف منذ أربعين يوماً على نفس الطريق، ما يناهز الخمسين طفلاً.
أمام مزلقان المندرة، لابد وأن تنسى ما يختزنه ذهنك، من الأفلام عن أصوات الأجراس ولمبات التنبيه الحمراء، التي تقوم بالتنبيه لقدوم القطارات، فهي غير موجودة هناك، وكل شئ على بوابات المزلقان، لولا صخب المارة، كان ليكون هادئاً للغاية.
هناك وبجوار تليفون أسود قديم لتلقي الإشارات والتعليمات، جلس حارسا المزلقان الجديدان، يتناولان طعام إفطارهما، لا يقطعه سوى اتصال من صوت ينبه لإغلاق المزلقان قبل مرور القطار، فيقوم الخفير المؤقت بجر بوابة حديدية قديمة تستند عند إغلاقها، على حجر كبير، ليعاود تبادل الحديث مع زميله.
يبدأ، أحمد عباس عبد الرحمن، خفير المزلقان، حديثه، بنفي صفة العمل هذه عن نفسه، قائلاً: «أنا عامل صيانة ولست خفيراً، وأعمل حالياً بشكل اضطراري في مزلقان المندرة لعدم وجود عمالة كافية بين الخفراء، ومنذ انتقالي لسد العجز هنا، بعد الحادث، وأنا لا ألحظ أي تغيير في آلية العمل، وذلك رغم أننا طالبنا المسؤولين، بتزويد بلوك المزلقان بجرس، حيث طالبونا بإعطائهم مهلة شهراً، انتهى ولم يأتوا به إلى الآن. ومازلنا نعمل على نفس الأوضاع القديمة التي كانت وقت الحادث».
يلتقط زميله، أمير عثمان توفيق، عامل صيانة بمزلقان المندرة، أطراف الحديث منه، قائلاً: «لم يتغير شئ في المزلقان منذ وقوع الحادث، ومازال الوضع كما هو عليه، اللهم إلا من زيادة عامل آخر بدلاً من أن كان العبء ملقياً على عامل واحد».
ويضيف، متفقاً مع زميله: «هذه ليست مهنتنا، لأننا عمال صيانة ولسنا خفراء مزلقان، فلكل منا تخصصه وآلية عمل وتعليمات لا يعلمها الآخر، وأبسط الدلائل على ذلك، أن عملنا لا علاقة له بالبلوك أو المزلقان لكنه عمل في قضبان القطار نفسها».
ويختتم، «توفيق»، حديثه، مؤكداً أن «المكان أصبح كئيب جدا، كما أن أهل البلدة، يلقون باللوم علينا منذ وقوع الحادث، فمنهم من يعترض على إغلاق المزلقان لو طالت الفترة، ومنهم من يتزمر بالقول (قفلتوها بعد ما وقع الخراب)، لكننا نتحملهم لظروفهم».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.