لا جدال فى أن من ينظر إلى الشعب المصرى من بعيد، خاصة إذا كان ذلك بعيون ثاقبة خبيرة شجاعة، لا تعرف المجاملة والالتفاف حول الحقائق والمراوغة.. لابد أن يصل إلى ما وصل إليه السيد «جرايم بانرمان»، مسؤول الترويج للمصالح المصرية فى الكونجرس الأمريكى، فى الحوار المهم الذى قامت به ونشرته صحيفة «المصرى اليوم» يوم 28/10.. ربما كانت هذه هى المرة الأولى التى أعرف فيها أن الحكومة المصرية تستعين بشركات تتكون من جماعات مختلفة داخل الدوائر السياسية الأمريكية لحفزهم على دعم الاتجاهات الإيجابية بالكونجرس، فيما يتعلق بالمعونة الأمريكية لمصر، وهى المهمة التى قام بها الرجل واستمرت من عام 1989 حتى عام 2007، وواجهته فيها صعوبات كثيرة سواء بالنسبة للأمريكيين أو المصريين، نظراً لحدوث أحداث سبتمبر والهجمات التى تعرضت لها أمريكا، والتى أثرت فى عقلية الكثير من القادة الأمريكيين فى هذه الحقبة، خاصة مع افتقاد معظمهم الخبرة والمعرفة بمنطقة الشرق الأوسط، والذين نظروا إلى الموضوع كله نظرة سطحية مفادها أن مرتكبى جرائم 11 سبتمبر وغيرها هم نتاج مجتمعات ليست حرة ولا ديمقراطية، وبالتالى فإن الضغط على حكومات هذه المنطقة لتحويلها إلى مجتمعات حرة هو السبيل الأمثل للتخلص من الإرهابيين وأفكارهم المتطرفة.. وعلى الرغم من اتفاق السيد «بانرمان» مع هذه الأفكار فإنه انتقد بشدة الأسلوب الذى حاولت به الإدارة الأمريكية السابقة الضغط على الحكومة المصرية لتحقيق الديمقراطية، لأنه ببساطة شديدة يرى أننا - نحن الشعب المصرى - لا نصلح لممارسة الديمقراطية فى الوقت الحالى، ولا يبدو ذلك ممكناً فى المستقبل القريب، لأن ذلك يتطلب جهداً ووقتاً كبيرين لتغيير أسلوب تفكير الشعب المصرى، وهو ما لا يمكن حدوثه إلا بشرطين أساسيين: الأول هو تغيير جذرى فى نظام التعليم، والثانى هو إعادة الاعتبار واحترام منظمات المجتمع المدنى، وهما شرطان مازالا بعيدين عنا، ولا نرى فى المستقبل القريب حتى شعاعاً من أمل لتحقيقهما.. لقد لخص السيد «بانرمان» الموضوع كله فى عبارة قصيرة واضحة لا يختلف على حقيقتها اثنان، قال فيها: «إذا ما اتخذ الرئيس الأمريكى قراراً، فإن هذا لا يعنى شيئاً، ولن يأخذ طريقه للتنفيذ إلا بعد أن يتدخل بالرأى عدد كبير من المؤسسات، فالفلسفة الأمريكية تؤمن بأن السلطة تأتى من الشعب، ولكن فى مصر تؤمنون بأن السلطة تأتى من القائد أو الزعيم أو الرئيس، ولا يمكن تغيير هذه الفلسفة التى يؤمن بها الشعب المصرى منذ بداية تاريخ الفراعنة، فهو يؤمن بأن الحاكم هو مصدر كل السلطات، وهى ثقافة ترسخت منذ خمسة آلاف عام». كلمات الرجل الواضحة والصريحة لا تحتاج لدليل، والطريقة المصرية الفرعونية فى تقديس الفرعون الحاكم أياً كان مسماه: «فرعون.. ملك.. رئيس.. زعيم.. قائد.. أو حتى الأخ العقيد» انتقلت من مصر إلى شتى بقاع الأراضى العربية من المحيط إلى الخليج. الغريب فى الأمر أن هذه الطريقة الفرعونية فى تقديس الحاكم (الإله) لم تتبدل أو تتغير حتى مع انتشار الوسائل التكنولوجية الحديثة، التى حولت العالم كله فعلاً إلى قرية صغيرة، يعرف كل من عليها ما يحدث فى أركان الأرض الأربعة بسهولة ويسر.. وطريقتنا الشاذة فى التعامل مع حكامنا لا علاقة لها من قريب أو بعيد بما حدث فى العالم كله من تغييرات فى النظرة إلى الحاكم، وفى نظم الحكم وتداول السلطة فى غالبية بلاد العالم!! صحيح أن الفراعين العرب يسمحون بوجود هياكل سلطات ضرورية فى هذا الزمان ليتعامل معهم العالم كدول بالمعنى الحديث للكلمة، مثل الأحزاب والمجالس النيابية والشعبية والقضائية وغيرها، ولكن تبقى الحقيقة، المؤكدة وهى أن الفرعون هو مصدر كل السلطات!! هل يمكن أن يضع رئيس تحرير الصحيفة الأولى فى أى بلد من بلاد العالم المتحضرة أو المتأخرة عنواناً لصحيفته يوم ميلاد سيادة الرئيس: «يوم ولدت مصر من جديد» كما فعل أحدهم فى ذكرى مولد رئيس الجمهورية، فى الوقت نفسه الذى لا يكف فيه عن ديباجة مقالات المديح والتمجيد والثناء أسبوعياً بمناسبة أو بدون مناسبة؟! حتى هؤلاء الذين يمثلون أدوار المعارضة أحياناً فى وسائل الإعلام المختلفة، لا تستطيع ألسنتهم إلا أن تلهج بالثناء والحمد والفضل لسيدهم الرئيس ما بين عبارة وعبارة فى أى حديث لهم، ويحرصون تمام الحرص على عدم الحديث بأى شكل يفهم منه أنه إساءة للذات الرئاسية أو المساس بأحقيتها هى فقط فى أن تقرر ما تريد وقت ما تريد لأنهم الأعلم بالأصلح لنا، نحن القطيع المسمى بالشعب!! وتبلغ المأساة أو الملهاة قمتها باعتبار الحديث عن صحة الحاكم وقدراته الذهنية والجسمانية، مهما طعن فى العمر، من المحرمات والكبائر التى يمكن أن تؤدى بمن يتحدث عنها إلى السجن!! بالطبع فإن شعوباً على هذه الدرجة من تقديس حكامهم والنظر إليهم بأنهم خلفاء الله فى الأرض وليسوا موظفين اختارهم الشعب لخدمته والسهر على أحواله - لا يمكن أن تفكر إلا فى أبدية الحاكم، وتوريث الحكم، ولا يمكن فى يوم من الأيام أن تحاسبهم مهما ارتكبوا من أخطاء وخطايا!! مثل هذه الأنماط من الحكم التى تستأثر بها بلاد العرب هى سبب كل بلاء ومصدر كل خيبة وانهيار.. ولكننا أصبحنا والعياذ بالله لا نفقه ولا نتعلم!! السيد «بانرمان».. لقد أصبت كبد الحقيقة فى وصفك.. وعوضنا على الله.