الله يرحمك يا أمى، ما زلت أذكر وجهك الطيب وأنت تندسين تحت الغطاء السميك، تمسكين برواية أجاثا كريستى، منهمكة فى القراءة، سعيدة كقطة راضية. ولأننى كنت أيضاً من عشاق رواياتها فقد كانت تدور بيننا معارك صامتة حول من يقرؤها الأول، وكانت تحسم لصالحك لأنك كنت تعرفين مخابئ البيت أكثر منى. ومن يومها وأنا واقع فى غرام شخصية «هركيول بوارو» الفاتنة بقامته القصيرة ورأسه البيضاوى وشاربه الخطير. بغروره الذى لا يطاق وتأنقه المبالغ فيه. وفجأة جاءنى فى المنام. بعد أن أنهكنى تفسير لغز ما حدث بين مصر والجزائر، كيف تؤدى مباراة كرة قدم إلى هذا التدهور فى علاقات الشعوب!. لقد اعتدنا الردح المتبادل بين الأنظمة العربية، وقرأنا أن عبدالناصر كان يعاير ملكاً بأمه ويهدد آخر بنتف لحيته. وعرفنا أن حرب سبعة وستين نشبت بسبب سحبه قوات الطوارئ الدولية بسبب المعايرات العربية، وشاهدت كاريكاتيراً فى عهد السادات لرئيس دولة مجاورة جالسا- وقد شمر بنطلونه- على «القصرية»!!. وسمعنا فى الإذاعات العربية اتهام السادات بالخيانة والتحريض على قتله، لكن الشعوب كانت خطاً أحمر لا يمسها أحد بسوء. لذلك ما حدث بعد مباراة مصر والجزائر يعتبر نقلة نوعية، فعلى حد علمى هذه أول مرة يُهان شعب بأكمله إلى حد وصف نساء بلده بالعاهرات، وتضرب المصالح الاقتصادية وتُحرق الأعلام بواسطة مظاهرات عفوية، عملية «صناعة عدو» بكل معنى الكلمة، واستنفار للكرامة الوطنية لم يحدث ونساء المارينز يجرون العراقيين بالحبال من أعناقهم، وإسرائيل تدك غزة وتبلطج على الجميع. نمت حيران وأنا أحاول أن أفهم ما يحدث فجاءنى «بوارو» فى المنام فسألته لماذا جاء؟ فقال فى بساطة: - عشان أحل اللغز. - وحتعرف؟ قال فى استنكار: - طبعا، مش أنا مخبر!. - طيب ما تزعلش. - يا بوارو أنت لا دخلت ماتش الكورة ولا أكلت العلقة ولا شفت حاجة. - الخلايا الرمادية فى المخ هى أهم شىء. أنا لست كباقى المخبرين أهتم بأعقاب السجائر وآثار الأقدام وسلاح الجريمة. يمكننى أن أجلس وأفكر وأعرف الجانى دون أن أغادر مقعدى ما دمت استخدم عقلى بشكل جيد وأبحث عن المستفيد الحقيقى. - ومن المستفيد؟ قال بوارو: - المال والنفوذ وجهان لعملة واحدة، أو بعبارة أخرى السياسة والاقتصاد. ألا تعرف أن الجزائر هى مغارة على بابا المليئة بالجواهر واللصوص؟. ألا تعرف أن العالم ييحث عن قطعة من الكعكة الجزائرية، والبترول فى الطالع وهناك فرص واعدة، والشركات الأورسكومية يجب إزاحتها لمصلحة شركات أخرى، والشركات الأخرى مش حتدخل السوق ببلاش، وكل واحد هناك حياخد حسنته، وطباخ السم بيدوقه، مش كده ولا إيه؟ - طب والسياسة؟ - شوف يا سيدى، الجزائريون طبعهم حامى والأجنحة المتصارعة فى السلطة بتبحث عن شعبية ولو بتشجيع العنف. - وفى مصر؟. - حاجة من حاجتين: يا حينتصروا ويتلهى الشعب ويركبوا الموجة وتعمل لهم شعبية، ويمكن تفيد التوريث. - ولو انهزموا يعملوا إيه؟ - يعملوا اللى عملوه بالضبط. يغضوا الطرف عن نوعية مشجعين الجزائر ودلالة الطائرات إللى نقلتهم والأسلحة البيضاء التى اشتروها. كانوا عارفين إن المشجعين المصريين حينضربوا علقة وده مفيد لهم برضه عشان يعملوا حركتين ويغضبوا للكرامة الوطنية ويحدث نوع من التوحد بين القيادة والشعب، والناس تنسى أنها متهانة فى مصر. - معقولة بيخططوا كده؟ - وأكتر، أنت فاكر العملية عشوائية ولا إيه؟ - عندك ألف حق. أنت فعلا حليت اللغز. - أى خدمة.. بس لو سمحت تمضى على شيك الأتعاب ده. إنت عارف إن معدش حاجة فى الزمن ده ببلاش.