فى طفولتى وعند تحفيظنا جزء «عم»، كانت هذه السورة من أصعب السور علىَّ، كما كان معناها مما لم أتفهمه. إن الآية باختصار تحذر مما نقول عنه «الكيل بمكيالين»، وهى تعنى بعالم البيع والشراء عندما يبيع أحدهم شيئاً فلا يفى الكيل، وعندما يشترى فإنه يريد زائداً عن الكيل، فهو يطفف عندما يبيع أى ينقص حيناً وهو يستوفى ويزيد حيناً آخر عندما يشترى فكأنه يكيل بمكيالين. والسورة تنطبق على معاملات الآحاد بعضهم بعضاً بائعين ومشترين بالكيل أو بالوزن، ولكنها أيضاً تنطبق فى وصفها وفى توعدها بالعذاب الشديد، والمحاسبة أمام الله على تصرفات الدول الكبرى مع الدول الصغرى كالولاياتالمتحدة، فهى مثلاً تبحث فى كل خرم إبرة عن إرهاب مزعوم، وتتجسس على إيران وتراقب عملها الذرى، وتثير الدنيا وتقعدها لذلك، فى حين أنها تغض الطرف عن إسرائيل، وهى التى بدأت الإرهاب فى العصر الحديث ووجهته نحو بريطانيا قبل أن توجهه للعرب ففجرت فندق الملك داوود مقر القيادة البريطانية، وقتلت ضباطاً بريطانيين وعلقتهم على الأشجار حتى أصبح كبيرهم «بيجين» شخصاً مطلوباً أمام المحاكم، وتعلق اللافتات التى تحمل صورته واسمه تحت لقب «WANTED»، أى مطلوب القبض عليه، وهى تتجاهل النشاط الذرى الذى تقوم به عياناً جهاراً حتى أصبحت تستحوذ على مائتى قنبلة ذرية تكفى لنسف وتدمير العالم أكثر من مرة. وداخل كل دولة من دول العالم الحديث، نجد الكيل بمكيالين، رغم وجود القانون والدستور، لأنه لا يمكن للدولة أن تراقب ما يعمل الناس، والناس يكيلون للأبيض بكيل وللأسود بكيل آخر، للأوروبيين بكيل وللآسيويين، والأفريقيين بكيل آخر، وللأغنياء بكيل وللفقراء بكيل آخر، وللرجال بكيل وللنساء بكيل آخر. رغم أن هذه المجتمعات كلها تقدس القانون ودساتيرها كلها تقرر المساواة، ولكن ما تعرفه القوانين أو تذكره الدساتير شىء، وما يقر فى النفوس شىء، وهو يعود إلى التاريخ والتقاليد، وما استقر فى الأعماق من مفاهيم وكلها تدعم التفرقة. إن التطفيف أصبح مشكلة على المستويات المحلية، وعجزت القوانين عن ملاحقة الغشاشين فى صناعات البناء، والصناعات الغذائية، وفى الأسمنت ومواد البناء.. إلخ، ولكن المسؤولين مع ذلك لديهم الآليات التى تضبط ذلك، ولكن الأمر يختلف على المستوى الدولى، فحتى المحكمة الجنائية الدولية فإن الولاياتالمتحدة نجحت فى أن يكون للمسؤولين الأمريكيين حصانة من اختصاصها، فى حين أنها تصر على طلب «البشير»، رئيس السودان. وموقف هذه الدول يعود إلى أنها لا تؤمن بأنها ستقف يوماً ما موقف المساءلة أمام الله، لأن أوروبا قد آمنت منذ وقت طويل بأن الله قد مات!