من الأكاذيب البلهاء التي نرددها كالببغاء لتأكيد سلطة الأكبر سنًا علي الأصغر سنًا بغض النظر عن استحقاق هذا الأكبر - أيًا كان - علي من هم أصغر منه مقولة: «اللي مالوش كبير يشتري له كبير»، والكبير لا يشتري ولا يباع إذا كان كبيرًا بحق. ولكي يكون الكبير كبيرًا بحق فيجب أن تكون أخلاقه أخلاق الكبار، وإلا فإن أبا لهب لمجرد أنه أكبر من النبي - صلي الله عليه وسلم - يكون خيرًا منه، وحاشا لله أن يكون! وهذه العبارة المنكرة جزء من ثقافة مختلة تعتبر فيها شرائح واسعة من الناس أن المكانة تسمو كلما زاد الشعر الأبيض في الرأس أو كلما وهنت القوة وانحني الظهر رغم أن ما يأمرنا به الإسلام بحق هؤلاء هو التوقير لا الطاعة «ليس منا من يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا»، لكن البحث عن الكبير ولو بالشراء تعبير عن التقديس لا التوقير، والفرق كبير جدًا. وعامة الناس يرددون هذه العبارة لتأكيد أن الأصغر هو في العراء ويحتاج لمظلة تحميه في تعبير عن حالة من الإحساس بالضعف والخوف في مجتمع لا يقيم للحق وزنًا يساوي عشر ما يقيم للتقاليد، حتي لو كانت هذه التقاليد ثمرة خرافة غبية مفادها أن الكبار أفضل لمجرد أنهم كبار، وأن الحقوق التي تترتب لهم هي حقوق مطلقة ومقدسة علي طريقة «كلام أخوك الكبير يصير»، وطظ في أي اعتبار أو أي معيار آخر. ومن النتائج الاجتماعية المأساوية لهذه الفكرة، وهي نتائج لا يتوقف كثيرون للتفكير لدقيقة واحدة فيها قبل أن يطلقوا هذه «الحكمة» كرصاصة طائشة، أنها تضع كثيرين تحت سلطة «كبراء مزيفين» أقل علمًا وأقل كياسة، وفي حالات كثيرة أقل خوفًا من الله، لمجرد أنهم أكبر. مما يزيد الطين بلة أنه أحياناً يكون لهذا الأكبر «ولاية شرعية» علي الأصغر، عندئذ يتحول هذا الأكبر في نظر نفسه إلي إله لا يسأل عما يفعل، وكم من أب وأم بدلاً من القناعة بأنهم «خلفوا» أبناءهم يتصرفون مقتنعين بأنهم «خلقوهم»، ورغم أن المسافة بين الكلمتين لا تتجاوز حرفًا واحدًا فإن المسافة بين المعنيين هي كالمسافة بين السماء والأرض! وما يشهده المجتمع المصري من جرائم عائلية بشعة بسبب الاختلال في العلاقة بين أطراف الولايات الشرعية يستحق أن نتوقف وأن نواجه - إلي جانب جموح الصغار - استبداد الكبار بسلطتهم التي حصلوا عليها بموجب الولاية الشرعية. فمثلا تشكل الجرائم التي تحدث بسبب الإضرار في الميراث نسبة لا يستهان بها من الجرائم الاجتماعية ومعظمها سببه «كبراء» قرروا أنهم أقدر علي تشريع أنصبة المواريث من رب العزة - تعالي الله عن ذلك علوًَا كبيرًا - وهم بالتالي يحجبون ويظلمون... والولاية الشرعية لا يجوز أبدًا أن تمتد حدودها إلي تغيير حكم شرعي. ومن المنابع الرئيسة لاختلال العلاقة بين الآباء والأبناء تبجح بعض الآباء علي الحق والحقيقة باختصار علاقتهم بأبنائهم في قاعدة واحدة تحقق غرضهم، وذلك بترديد حديث للرسول يلوون عنقه ليريحوا ضمائرهم ويسكتوا صوت الفطرة في أعماقهم، وهو قول الرسول: «أنت ومالك لأبيك»، فمن قال هذا الحديث هو نفسه من أبي الشهادة علي فعل صحابي أراد التفرقة بين أبنائه بأن منح أحدهم هدية دون الآخرين فقال بلا مواربة: «لا تشهدني علي جور»! وأعرف أُمّا تخلت عن كل معني يمكن أن تعنيه الأمومة حتي في عالم الحيوان واستخدمت السحر في محاولة السيطرة علي حياة أبنائها، فأضرت ببعضهم أبلغ الضرر - وهو فعل مجرم في قوانين كل الشعوب وشرائع كل الأديان - ووقف أبناؤها المتعلمون، الذين يبدو من ظاهرهم أنهم متدينون، لا يقدرون علي الخروج عن سلطة «الكبار» بينما هي تتبجح بأنها «حرة في ولادها»، هكذا بتبجح جاهل. ورسول الله - صلي الله عليه وسلم - امتدح الشباب غير مرة وأكد أنه عندما بعث بالإسلام أيده الشباب وعاداه الكبار، وبعض الكبار قال عنهم رب العزة: «وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ في الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ"(يس: 68)، وبعضهم قال عنهم رب العزة: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُمْ مَن يُرَدُّ إِلَي أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا» (النحل:70) وإحساس البعض بالحاجة للكبار مما يشير إليه معني رباعية رائعة للشاعر المبدع صلاح عبد الله، فهي تصور نموذجًا لهذه الرغبة الغريبة في سعي البعض طواعية لوضع قيود في أيديهم لمجرد الانصياع لمجري نهر الاعتياد، يقول صلاح عبد الله: قالوا لطور اتمني واطلب يا طور قال نفسي في الحرية زي الطيور كسروا السواقي وسرحوه في الخلا ساعة.....ولقوه في مكانها عمال يدور فيا أيها الناس: اللي مالوش لا يبيع ولا يستلف ولا يوجع دماغه نهائيًا، صدقوني.... اللي مالوش كبير يحمد ربنا!