فوق كوبرى قصر النيل، الذى شهد قسمًا كبيرًا من أمس مصر الراقى، قبل أن يلوّثه الدهماءُ الذين لا يشبهون مصر، ولا تشبههم، حدث ما يلى، يوم 31 مايو الماضى، فى وضح النهار، وعلى مرأى ومسمع من المارّين بالكوبرى فى تلك اللحظة، من مصريين وغير مصريين. كانت إشارة حمراء. رفع رجل المرور ذراعه لتتوقف السيارات. توقفت جميعها إلا واحدة حمراء فارهة، مسرعة أصرّت أن تكسر الإشارة لولا أوقفها السيارات المواجهة. اقترب رجل المرور من السيارة المارقة وقال لسائقها: «لو سمحت ارجع ورا شوية.» ذلك كيلا ترتبك سيولة السيارات فى الاتجاهات الأخرى. قالها بهدوء، ثم استدار ومضى، ليتابع عمله، وقد ظن أن الأمر انتهى، وأن مَن بالسيارة، كائنًا مَن كان، سوف يصدع لطلبه، بما أن تلك وظيفته التى من خلالها يحاول، قليلا، أن ينظّم حراك بلد اختلّت فيه حركة السير والمرور حتى أعيت خبراء العالم فى تنظيمه. فجأة، انفتح باب السيارة الحمراء بعنف، انتبه على صخبه الجميع، ونزل منها رجل ضخمُ مفتول العضلات حليق الرأس كأنما أحد المصارعين، فى الثلاثينيات من عمره المديد بإذن الله، وزعق بأعلى صوت: «تعالى أمّا أقولك!» ولم يفطن المرورىُّ التعس أن الكلام له، فلم يستدر، وظل يتابع عمله محاولا أن يحثّ السيارات فى الاتجاه الآخر على سرعة الحركة. زعق المصارعُ مجددا: «باقولك تعالى هنا يا حيوان!» استدار المرورىّ والدهشة تغرقه، وقد شرع فى تحرير مخالفة، قائلا: «أنا؟!» فأجاب الرجل: «أيوا انت يا حيوان! لما حد يقولك: تعالى أما اقولك، فده يبقى واحد من تلاتة: ظابط شرطة، أو وكيل نيابة، أو مستشار. وأنا مستشار يا حيوان! فاهم؟ والورقة الوسخة، اللى بتكتبها دى (يقصد دفتر المخالفات)، بتجيلى أنا فى الآخر! مفهوم؟» ثم انطلق بسيارته. أطرق المرورىُّ فى صمت وسيماء الرعب على وجهه، وراح يتمتم (هل كان يلعن، أم يحمد الله أن الرجل طلع طيب ولم يرفع مسدسًا لينهى حياته؟ مثلما حدث العام الماضى فى واقعة نادى الصيد الشهيرة) أغلب الظن أن التمتمة مزدوجة. ومرَّ الأمر! وسط دهشة البعض (مِن السُّذّج الذين لا يعرفون قوانين مصر العُرفية الراهنة، التى تحكم العلاقة الشاذة بين المواطن والسلطةّ!)، وغيظ البعض (ممن يعرفونها ويرفضونها وينشدون الكمال، الذى لا يأتى!)، ولا مبالاة البعض (ممن يعرفونها ويسلّمون بها باعتبارها طبائع الأمور!)، وابتسام البعض (ممن يعرفونها ويسلّمون بها يقبلونها ويرحبون بها قانونًا يسير فى مصر، ويسيّر يومها وليلها!). أحد مواطنى الفئة الثانية، (المغتاظين)، سأل المرورىّ بحنق: «انت ساكت له ليه؟ وليه ماخدتش رقمه؟ وازاى تقبل يقولك «يا حيوان! أنت تؤدى عملك وهو اخترق القانون وكسر الإشارة!» فأطرق المرورىُّ فى حزن وقال: «يا بيه، أنا عندى عيال وعاوز أربيهم!» واستطرد أحد مواطنى الفئة الرابعة (المبتسمين)، من العالمين بطبائع الأمور: «راجل عاقل وتصرف بحكمة، ده ممكن يشرّد أهله!» والسؤال: كيف سمحنا ليوم كهذا أن يهبط على مصر بكل ثقله، تحدث فيه مثل تلك الكوارث العجيبة؟ هذا المستشار، إن كان حقًّا مستشارًا، (لأن من ثقافاتنا الجديدة المخزية أن يقول لك أحدهم: انت عارف انت بتكلم مين؟ ثم يطلع لا مين ولا حاجة!)، فإن كان مستشارًا فإن وظيفته فى الحياة أن يطبّق القانون ويحفظ أمن الناس ويرعى صالح الوطن؛ فبأى منطق يحدث أن يخترق هو القانون؟! هذا أولا. ثم كيف يصنع من نفسه نموذجًا رديئًا يقول للناس: «هلّموا اكسروا القانون، ولكن انتبهوا، لابد أن تكونوا أحد رجالات السلطة، ليحق لكم أن تخترقوا القانون! ذاك أن القانون فوق رأس المواطن، وتحت أحذية رجال السلطة!» ثم ثالثة الأثافى: يعاقبُ رجلا يؤدى عمله، رجل المرور! ثم رابعًا: يسبّه على مسمع من الجميع، ومنهم أطفالٌ ونشء، لكى يعلمهم الدرس المصرى الراهن: اكسروا القانون، وأطلقوا ألسنكم بالسباب وفظ القول، فقط عليكم أن تدخلوا كليات الشرطة لتضعوا البلد، كاملا، فى جيوبكم! [email protected]