الرجل في المقهى كان يحدث نفسه بالفعل، رغم أنه كان يجلس وحيدًا. كان ينقل بصره في أنحاء المقهى يحاول أن يجد عينًا تلتقي بعينه، لعله يستطيع اجتذابه قسرًا للحوار معه. وعندما لم تفلح المحاولات أخذت نبرة صوته تعلو وتتصاعد، يبدو أنه كان يحاول التفاعل مع نفسه. الجالسون من حوله كان يبدو عليهم الملل والسخرية منه، رغم أن أحاديثهم الخاصة، التي لم تكن تختلف كثيرًا عن حواره الذي يحاول أن يجد له طرف آخر. من الطاولات المتقاربة في المقهى الصغير لم يكن من الصعب أن تتبين، نفس الكلمات تتناثر وتتشكل في تنويعات مختلفة: «الثورة والإخوان وحماس وغزة ومرسي والمجلس العسكري والمخابرات والبدو والجهاد والإرهاب والتكفير والإسلام والمسيحية ودهشور والمكوجي والبلطجة ونايل سيتي وماذا أيضا؟». لم يكن من السهل توقع كيف يشكل كل جالس هناك مشهدًا وصورة من تلك القصاصات المتناثرة. لكن الرجل المزعج كان الوحيد الذي نعرف جميعًا أنه ينثر كلماته يائسًا بلا أي محاولة لتشكيل مشهد، وكانت أسئلته صادقة في ضياعها. وأي محاولة للإجابة كانت تلقي به في الكليشيه العام: «البلد التي باظت وخربت». لكنه للحق كان يحاول ألا يستسلم لذلك الكليشيه، وأن يعاود السؤال والبحث: «همّ فين شباب الثورة اللي كانوا في الميدان؟، فين الثورة والحاجات الحلوة اللي قالوا الثورة هاتجيبها؟، فين العيش والحرية والعدالة الاجتماعية؟». كانت طريقة تساؤله بالغة الصدق، وكان بحثه يكاد يتحول إلى بحث حرفي حوله في جوانب المقهى، ربما يقع بصره على عيش أو حرية أو عدالة اجتماعية أو الحاجات الحلوة اللي هاتجيبها الثورة، بالتأكيد كان هناك متهمون بكونهم «شباب الثورة». أعتقد أني كنت منهم، لكني انشغلت بوضع مزيد من السكر في الشاي وأنا أراه ينظر إليّ محاولاً أن يجتذبني طرفًا لحواره. لو أنني في حالتي العادية ربما كنت اشتركت في الحوار، لكنني في إجازة وكنت مصابًا بالصداع، وكان لدي بعض المشاكل الشخصية- لا أخفي عليكم- وكنت أفكر أصلاً في الاعتذار عن كتابة مقال هذا الأسبوع، لكني الآن فكرت في أن أرد على الرجل المزعج الذي استطعت أن أتهرب من نظراته ومن الحوار معه، لكن رأسي والصداع لم يتمكنا من التهرب من صوته وأسئلته. عزيزي الرجل المزعج أهدي إليك هذه الرسالة: لم الزبالة أم دلقها؟ عزيزي الرجل المزعج، الآن وأنا متفهم أكثر أجدك منزعجًا جدًا من كل مايحدث ولا تجد ما ينتشلك من هذا الإزعاج. لكن صدقني أنا مثلك بشكل ما، لست منزعجًا بالتحديد، هذه الكلمة غير مناسبة، لكني قلق. وهذا القلق لا يتحول إلى انزعاج، لأني لا أحاول تجاوزه إلى اطمئنان، لكن إلى اهتمام. وانتهى بي الحال إلى أني استطعت أن أبلي بلاءً حسنًا وأنا أعيش في القلق والاهتمام. وذلك الاهتمام لم يحملني إلى حلول لما أقلق بشأنه، لأن ما أقلق بشأن ليس المشاكل، لكني منزعج من «حلول» قدمها آخرون للمشاكل التي أكثر ما يتعبني هو التوصل إليها فعلاً. ولذلك هداني إلى أن أجتهد في صناعة المشاكل لما أنا قلق تجاهه. هناك مقولة شهيرة أنا أحب تحريفها إلى «دع القلق وابدأ المشاكل». ولذلك فإني بدأت الاهتمام بصناعة المشاكل ووجدت آخرين أيضًا أشترك معهم في ذلك. لا أخفيك أن قلقي واهتمامي، بالتشاور مع آخرين قلقين ومهتمين، جعلاني، ووجعلنا معًا، نرى البلد مزيجًا من الأشياء الجيدة والأشياء القذرة، لكن في النهاية تواجد العدد من الأشياء غير القذرة المستقرة بجانب أشياء أخرى قذرة في صفيحة، ذلك لا يمنعها من أن تكون «صفيحة زبالة». يمكنك أن ترى الأمر بطريقة مختلفة، لكني لا أرى مانعًا أن نقول أن هناك «صفيحة زبالة». إن اتفقت معي، فإن الكثيرين القلقين والمهتمين الذي رفضوا التواجد في صفيحة الزبالة وقاموا بالقفز منها ورجها ومحاولة إزاحة غطاء الصفيحة نجحوا مؤخرا في إزاحة الغطاء لمسافة كبيرة كما نجح قلقهم في الإخلال بتوازن الصفيحة فمالت وسقط منها أشياء قذرة وطبعا معها أشياء غير قذرة. لكن لا توجد طريقة مضمونة بخصوص هذا الأمر. هناك مجموعة من القلقين والمهتمين كانوا وما زالوا يريدون قلب الصفيحة تمامًا وإزاحة الغطاء تمامًا، لكن الأمر أن هناك العديدين ممن يحبون الأكل من الزبالة ويخافون أن نفقد كل الأشياء الجميلة التي ارتضت أن تتجاوز مع الأشياء القذرة في الزبالة، وهناك مؤخرات عسكرية ومعها مؤخرات سياسية وأخرى اقتصادية واجتماعية ودينية تحب دائمًا أن تشترتك في إعادة الغطاء والجلوس فوقه، لكي تحافظ على توزان الصفيحة واستقرار الغطاء في مواجهة أي مشاكل. الإخلال بتوزان الصفيحة لا يلقي بأشياء جميلة خارجها، بل يجعل القاذورات مكشوفة أكثر ومتناثرة هنا وهناك في وضوح، حتى الأشياء غير القذرة التي ارتضت أن تتواجد بلا قلق ولا اهتمام ولا تعبير عن القرف هي على الأقل «متعاص» قذارة. أعتقد أنه من الضروري أن نعرف أيضًا أن الإخلال بتوازن صفيحة الزبالة لا يملؤها بالضرورة بأشياء جميلة، لكن محاولات الملء يمكنها أيضًا أن تكون زبالة، كما لا يخفى عليك أن هناك أنواعًا وأشكالاً مختلفة من الزبالة. وفي المرات التي وثقت فيها شعوب في طرف ما إن يملأ هو الصفيحة من جديد، فإن استفراده بالملء حتى لو بأشياء جميلة قد أدى لامتلاء الصفيحة مرة أخرى بالزبالة أو فساد الأشياء الجميلة. نعم يا صديقي الأشياء الجميلة أيضًا تفسد. المهم أنني أعتقد يا صديقي أنك يجب أن تخفف عن نفسك بتذكر أن عملية الإخلال بتوازن الزبالة قد أدت لأشياء مسلية، فمثلاً بعض الزبالة تظن نفسها أشياء جميلة وتستعرض أمامنا في خطابات واجتماعات ولجان وتصريحات وقرارات وتشكيلات وحركات. أعتقد أن انزعاجك يعود إلى أنك لست من الأجيال التي ألفت الإنترنت، ويمكنك أن تسلي نفسك بالعديد من الاسكتشات الجميلة التي طفحت علينا، ربما لنتسلى، ربما لنبكي على حال حكامنا «القدامى- الجدد»، لكن في النهاية هذا شيء مفيد. أن يعرف الجميع ماذا كانت تحتوي هذه الصفيحة وبم يتم ملئها الآن. انتهى الاستقرار يا عزيزي عزيزي المنزعج. ما لا يمكنني نصيحتك به، لكن يمكنني أن أقول لك أنني متعايش معه جيدًا، هو أنني أشارك في القلق والاهتمام وصناعة المشاكل تجاه هذه الصفيحة التي تحتاج لاختلال كبير وسقوط مروع، لكي يسيل أكبر قدر من الزبالة، كما أن اهتماما وقلقا متجددا ومشاكل مستمرة ستتيح لهذه الصفيحة أن تتحول من صفيحة زبالة إلى صندوق يحتوي شيئا ما. هذا الذي لا نعرف تحديدا كل تفاصيله، لكني أعرف بعض الأشياء وأنت تعرف بعض الأشياء. وصدقني من يدعون أنهم يعرفون جيدًا كل ما يجب فعله هم في الحقيقة من محبي نوع ما من الزبالة. وأنا أكتب هذا المقال عرفت أن هناك قرارات من الرئيس بإقالة قيادات مخابراتية وعسكرية وشرطية ومحلية. ليس لدي وقت لكي أتأكد تماما قبل إرسال المقال، ولكني أعتقد أن في الأمر شيء مسلي لو نظرت للأمر من هذا المنظور الذي أدعوك إليه. الرئيس تخلى قليلا عن تردده وتوقف عن «لم الزالة» وبدأ في صناعة المشاكل ودلق الزبالة. حاول أن تتجاوز القرف وتفرج على ما يسيل من الصفيحة، ولا تدع شيئًا يثير ذعرك وخوفك فتتخيل أن هناك استقرار يمكن أن يحتفي ب«النصف المملوء من صفيحة الزبالة» أو يبتزك بما سال منها وملأ أنوفنا قرفا، لكي نتوقف عن الإخلال بتوازن تلك الصفيحة. الرئيس نفسه متردد بين تفريغ القمامة ولمها. يمكنك أن تشاهد عاقبة التردد. لا يمكن لذلك أن يمنحك شيئًا جيدًا.الاستقرار أصبح وهما. التغيير هو المصير الذي لا يقوده أحد. دع الانزعاج وابدأ القلق والقرف والاهتمام وصناعة المشاكل.لا تنظر حولك في انتظار تفسير أو حل أو إنجاز. صناعة المشاكل يبدأ حلها. تجنبها يحولها إلى زبالة. تفريع الزبالة، وليس لملمتها، هي المشكلة، وربما نجد معًا حلاً يا صديقي.