"أنور" هو أحد أهم الشخصيات في حياتي، بل في حياة أسرتي، وجميع الأسر في العمارة التي أقطنها. ليست تلك مبالغة في محبة هذا الشاب، لكنه استحق ذلك وفوقه احترام كبير. عندما يدق جرس الشقة كل صباح، وبطريقته الخاصة والمزعجة في قرع الباب، أهرول مسرعة مبتهجة بقدومه وكأنه كان يعزف موسيقي علي الباب ولا يحاول اقتلاعه من جذوره! ومع ذلك فإن الابتسامة تعلو وجهي دون تذمر من منظره الرث ومن رائحته الكريهة، وكأنه يلبس الاسموكنج، ويضع أجمل البرفانات، ولا أتضايق من "القفة" أو "الغلق" التي لم يعد لها لون من كثرة الأوساخ والقاذورات، وأتظاهر بأني لا أري ولا أشم.. بل وكأن أنور جواهرجي يحمل ألماظ! و"أنور" كثر غيابه في الفترة الأخيرة، لذلك زاد قلقي، واختفت البهجة من حياتي، وانعدمت السكينة والطمأنينة من أسرتي، وسبب التأخر لا يد له فيه، فهو شبه "معتقل" داخل مستعمرة الزبالين بمنشية ناصر، المحاصرة بكردون هي وغيرها من "الزرايب" في مصر. بالطبع عرفتم من هو "أنور".. وعرفتم لماذا هو الأهم في الشخصيات المحيطة بي. صحيح أنه جامع قمامة أو بالبلدي "زبال" لكن في مجتمع كالذي نعيش فيه، غارق في الزبالة، وفي العشوائيات التي يعيش فيها نحو 12 مليون مواطن.. لا فرق بين حياة الناس الذين يقطنون الزمالك والمهندسين، وأولئك الذين يعيشون في "منشية ناصر" و"الخصوص" ويصبح شخصا مثل أنور وزنه "يتاقل ذهب". وفي ظل الأزمة التي نعاني منها، وفي ضوء تداعيات انفلونزا الخنازير، من المهم الإنصات إلي شخص مثل أنور والذي يحمل وجهة نظر فيما يحدث لا تستغربوا ذلك.. أنور يؤكد أن الأزمة مفتعلة، وتم استغلالها! فمصر خالية من انفلونزا الخنازير، لكن حالة الهلع والفزغ استخدمتها الحكومة والمحليات للتخلص من العشوائيات التي تتمحور حولها مزارع الخنازير.. وقد فشلت حكومات متتالية لعقود طويلة في نقل هذه الكتل البشرية، وتطهير تلك العشوائيات وجاءت الفرصة الذهبية في هذه الظروف، التي لن يتعاطف فيها الرأي العام المحلي، والعالمي مع الزبالين، لتقتحم الحكومة هذه المجتمعات العشوائية وتنقلهم بعيداً عن الكتل السكانية حتي لو بالقوة. ويعلق أنور علي ذلك قائلا: إن المتضررين الحقيقيين والذين تعدادهم أكثر من مائة ألف مواطن يعيشون من نشاط "الزبالة" سوف "يذبحون" والتعبير من عنده ولكن لن ينتبه أحد لنباحهم ودمائهم التي تسيل أنهاراً. أنور مثله مثل الملايين من المهمشين يحلم بتحسين طريقة عيشه، بأن يكون له غرفة وسرير نظيفان كبقية البشر، وأن يأكل رغيفاً نظيفاً أيضاً مرة في اليوم بدلاً من بقايا العيش القديم والقذر الذي يلتقطه من القمامة التي يجمعها، وأن يأكل قطعة من الفراخ، وليس "الأرجل" والأجنحة والحشايا.. أنور مثله مثل الملايين من المهمشين المتعبين يتمنون الانتقال إلي مكان "آدمي" يستطيعون أن يكسبوا عرق جبينهم بشرف، وهدوء. لكن المشكلة انهم لا يثقون في الحكومة، ولا يصدقون انه سيأتي يوم يتحقق فيه "ذرة" من تلك الوعود المعسولة. ورغم أن الحكومة تستطيع أن تصنع المعجزات إذا أرادت، وأقرب دليل علي ذلك حدائق زينهم، إلا أنه يبقي لكي تتحرك بنفس الزخم والتصميم الذي واجهت به منطقة زينهم العشوائية وحولتها إلي جنة علي الأرض، أن تتصدي شخصية كبيرة ومهمة في مثل حجم وثقل السيدة سوزان مبارك لبناء مجتمعات عمرانية جديدة للزبالين، والعاملين في مزارع الخنازير.