هناك فيلم للمخرج الفرنسى المهم «لوى مآل»، تم توزيعه تحت اسم «لو فو فوليه»، العنوان الذى يمكن ترجمته بال «نار فى الداخل».. الفيلم يحكى قصه رجل عاش معظم حياته فى شبه غيبوبة تحت تأثير الخمر، ثم بعد إتمام علاجه من حالة التغييب تلك، أصابته حالة اكتئاب، حتى أن الخمر لم يعد له التأثير السابق، لأن تأثيره صار إما منفرا وموجعا أم مثيرا لمزيد من الاكتئاب. وحياة الرجل السابقة صارت مجردة من المعنى، وحياته الجديدة دون اتجاه أو هدف، فقرر فى النهاية الانتحار. أعتقد أن هناك توازياً بين هذه القصة وما يحدث للعقل الجماعى المصرى حاليا.. أعرف أن هذه المقارنة قد تبدو غريبة للوهلة الأولى، والتشابه الموجود حتميا سيكون تقريبياً، لأن أى «عقل جماعى»، إذا كان موجودا، لا محالة أن يكون مختلفا جذريا عن وجدان الفرد، لكنى سأحاول سرد بأكبر قدر من الوضوح المقيد بمساحة المقال سلسلة الأفكار التى قادتنى لهذه النتيجة. فى أعقاب الحقبة الناصرية مباشرة، نشر توفيق الحكيم كتابه عن «عودة الوعى». هذا العنوان كان تنويعا على «عودة الروح»، قصته التى أعجبت ناصر كثيرا. قال الحكيم، فى عودة الوعى، إن الرئيس كان ديكتاتورا مغرما بالشعارات الرومانسية، ففصّل قيادته على صورة محسن فى «عودة الروح»، ورأى فى نفسه مخلّصا للإنسان البسيط، يعيد له كرامته، رغم أنه لم يكن لديه خطة واقعية لفعل ذلك، بل إنه كان مهتماً بالدرجة الأولى فقط بصورته كزعيم.. واعتقد الحكيم، أن فى ظل لغة الشعارات والشعر السياسى التى نتجت، صارت البلاد وكأنها كانت تحت تأثير حالة تنويم مغناطيسى، فابتعدت فيها عن الواقع؛ فحتى جسامة كارثة 1967 لم يتيقن المصرى العادى بحجمها إلا عبر قراءات من بين سطور الصحف الغامضة. أى أن من وجهة نظر توفيق الحكيم أن مصر الناصرية دخلت فى حالة غيبوبة تشبه حالة إدمان الخمر.. اللافت للنظر هنا أن الحكيم كان من أكبر مؤيدى ال«ثورة» فى البداية، وكان يعتز باحتفاء ناصر به.. أما ما تسبب فى الفراق بينه وبينها لم يكن سببه الوحيد هو الفشل الحربى، إنما أيضا الفشل الفكرى.. فالحكيم كان ينتقد بطريقة لاذعة النظام القديم الذى سبق يوليو 1952، لكنه كان يفعل ذلك من زاوية ليبرالية؛ من خلال وجهة نظر مثقف يعشق التراث الفكرى العالمى ويتفاعل معه.. أما النظام الجديد، فقد عمل دؤوبا على عزل مصر عن العالم، بل دخل بها فى حرب ثقافية وسياسية معه، وفصلها عنه، وشيد فى ظل تلك العزلة عالما شعائريا بديلا من صناعته، فكان تقبله فى النهاية أصعب من قبول النظام القديم. عند قراءة «عودة الوعى»، يبدو من الواضح أن الحكيم كان يعتقد أن حالة التغييب والعزلة تلك قد انتهت مع وفاة عبدالناصر. لكننا نعلم الآن أن الحال لم يكن كذلك. فالنظام الساداتى جاء هو الآخر بشعارات وهمية عن ال«انفتاح» والرخاء والديمقراطية، ولم يتحقق أى منها. على العكس، صار الانفتاح نوعاً من الفوضى الاقتصادية، صاحبتها حالة أكثر حدة من الانغلاق الاجتماعى وسيادة الأصولية الدينية. والديمقراطية ظلت صورية.. وظلت «سياسة الصدمات» ومبادرات الحاكم الجسورة تعوض عن مسار سياسى مدروس، وتعمل على تغييب البلاد عن الواقع وتلهيها عن مشاكلها الحقيقية - مثلا، عن بنيتها التحتية المنهارة فى جميع المجالات تقريبا.. حتى صارت البلاد دون طرق أو نظام اتصالات أو جامعات يمكن حتى الحصول فيها على نسخ من أهم الدوريات العلمية، ناهيك عن إمكانية وجود أبحاث علمية جادة بين جدرانها. فى عصر مبارك تم إصلاح بعض هذه العيوب لحد ما، لكن فى ظل استمرار غياب الشفافية والمشاركة الشعبية، وفى استمرار تفشى الفساد وتزايد الفوارق الاجتماعية الفجة، لم تصل ثمار التنمية للناس. وكانت التنمية نفسها تسير بطريقة فاقدة للكفاءة، بالنسبة للأموال الطائلة المستثمرة فيها، وذلك، إلى حد كبير، نتيجة الفساد وتفضيل أهل المحسوبية على أهل الخبرة، وأيضا لغياب المهارات التقنية. لم تتمكن «جمهورية يوليو الثالثة» من تغييب الناس مثلما فعلت الأولى والثانية، ذلك نتيجة لسياستها ال«فايقة» والعقلانية نسبيا، وللقدر الأكبر من الحرية المتاح فى ظلها.. ما حدث إذن فى الفترة الأخيرة هو أن منومات الماضى لم تعد فعالة، بل صارت منفرة ومثيرة لمزيد من الاكتئاب، بدلا من تفعيل النشوة المرجوة منها، تماما كما حدث لبطل الفيلم المذكور، لتجد مصر نفسها متيقنة لحالة التوهان التى نتجت عن أكثر من نصف قرن من حكم ارتكز أساسيا على تغييب وجدان الأمة الجماعى.. أى ما حدث هو عملية «فوقان» من تأثير التنويم المغناطيسى، وعودة الوعى التى تكلم عنها الحكيم، ليجد المجتمع المصرى نفسه دون اتجاه واضح للمضى قدما.. كل ما أتمناه الآن ألا يؤدى ذلك للانتحار الجماعى - أى أن تنتقل السلطة لحركات شمولية، دينية كانت أو علمانية - على العكس، أرجو أن تعنى عودة الوعى العودة لأسس التعددية والانفتاح الحقيقى، المفتقدة منذ 52.