طرح وزير الخارجية التركي السابق أحمد داوود أوغلو قبل سنوات مبادرة "سياسة صفر مشاكل"، أى تفادي التدخل الخارجي واحتواء أية خلافات، وإتباع نهج التعاون وليس التصارع في العلاقات الخارجية، خاصة مع دول الجوار. صحيح أن هذه المبادرة لم تصمد، وتورطت أنقرة في عدة أزمات، وانحازت لطرف ضد طرف في الصراعات العربية، خاصة في مصر وسوريا، لكن يبقى هذا المبدأ له جاذبيته، ويمكن للأنظمة الذكية أن تتبعه لتعظيم مكاسبها وتقليل خسائرها، وبناء نفوذ ممتد وتحسين صورتها لدى الرأى العام حول العالم. كنت أتمنى أن تأخذ بهذا التوجه السياسة الخارجية المصرية مع محيطها العربي والأفريقي بشكل خاص، وفي دوائر تأثيرها القديم ومناطق نفوذها السابق التي تتركز فيها ثقل المصالح المصرية العليا، بغية استعادة بعض مما خسرناه خلال حقبتي السادات ومبارك، لكن للأسف السلطة الحالية كما سابقاتها لا تريد أن تغير من توجهات السياسة الخارجية، سواء ما يتعلق بإعادة التحالفات مع القوى الاقليمية والدولية بشكل حقيقي وليس هزليا ودعائيا، أو السعى لتجنب التورط في أزمات وتوتير الأجواء مع أطراف فاعلة هنا أو هنالك، والانحياز لجانب على حساب آخر. وربما أزمة مصر والمغرب الأخيرة تؤكد هذا النهج غير السوي والمضر بمصالحنا العليا، وكذلك الخلاف بين القاهرة وحماس، أو استمرار النفور بين النظام المصري وإيران، ومناصرة طرف ليبي ضد طرف آخر. فالسياسة الخارجية الناجحة، والتى تعمل باستقلالية ولا يحركها سوى المصلحة الوطنية تتحرك بتوزان وفعالية على أكثر من محور، وتأخذ مسافة واحدة من كل الأطراف، بل تسعى لتكون هي المرجعية والحكم والوسيط إن لزم الأمر بغية اكتساب الجميع. فليس معنى تقوية علاقتنا بالجزائر ووجود منافع مادية متمثلة في توفير منتجات نفطية أو صفقات غاز بأسعار رخيصة، أن يكون ذلك على حساب المغرب، ومسائل حساسة تستثير هذا البلد المغاربي مثل الخلاف الجزائري المغربي حول قضية الصحراء، فمن الحكمة في مثل هذه الأمور التزام الحياد أو التدخل الإيجابي بلعب دور وساطة. وليس من الحكمة أن نستعدي فصيلا فلسطينيا كحماس لصالح السلطة الفلسطينية، بصرف النظر عن خلفية هذا الفصيل الايديولوجية وارتباطه بالإخوان، خاصة حين يكون براجماتيا وقابلا للتطويع، وأن يكون لاعبا لخدمة الأمن الوطني المصري، وورقة ضغط قوية على العدو الصهيوني الذي يريد البعض أن ننسى أو نتجاهل خطره الدائم، بل ويتم العمل وفق أجندته الأمنية والإستراتيجية. ولاشك أن التحالف مع دولة إقليمية ذات نفوذ ممتد في الخارطة العربية مثل إيران، أصبح ضرورة، خاصة أنها تلح في تطوير العلاقات مع مصر، وتدرك ما لا ندركه أن تحالفها مع دولة مثل مصر سيقلب موازين القوى في المنطقة، ويضعف من النفوذ الصهيوأمريكي، وفي الأخير سيحقق مصلحة مشتركة عربية إيرانية اقتصادية وأمنية. لكننا نصر على تجاهل مبادرة التقارب، ونخضع ل"الفيتو الأمريكي" ومخاوف متوهمة لدى أنظمة دول الخليج التي بعضها يحتفظ بعلاقات قوية مع طهران مثل سلطنة عمان، بل ويتم الحديث عن انضمام مصر لمجلس التعاون الخليجي لاتخاذها كشرطي ضد الجارة غير العربية في خطاب استفزازي، وتورط في صراعات مصطنعة تضرنا ولا تفيدنا . وبدلا من أن نسعى لعملية مصالحة ليبية بالتعاون مع دول الجوار الليبي، وأيضا الدول المتورطة في الصراع الليبي من خارج هذا التجمع كتركيا وقطر، نتورط في الانحياز لطرف واستعداء آخر، لخدمة أجندات مصالح خارجية أو نكاية في "إخوان ليبيا". وكل هذه التحركات، للأسف، تترك مرارة لدى الشعوب العربية وتقدم مصر التي كانت "قلب العروبة النابض" و"بيت العرب" والدولة القائدة القاعدة بصورة سيئة، كمن يلعب لإرضاء واشنطن وحلفائها واكتساب رضائهم، حتى لو كانت النتيجة الاضرار بالمصالح العربية التي نحن جزء منها، وإعادة صياغة معادلات القوى، وفق الرؤية الصهيوأمريكية، ومزيد الإضعاف الذي لا يخدم سوى بقاء الكيان الصهيوني قويا وآمنا متفوقا على قوة كل العرب مجتمعين. أن أول خطوة في طريق إعادة الدور المصري والمكانة والتأثير هو استقلال القرار الوطني عن واشنطن وتل أبيب، وإعادة بناء التحالفات الاقليمية والدولية على نحو يخدم مصالح مصر، ثم التحرك النشط في دوائر النفوذ المصري عربيا وافريقيا، والسعي لإكتساب أصدقاء لا أعداء، حتى تعود مصر الدولة العربية الكبرى التي يُحسب حسابها في كل قرار والتي يلجأ إليها الجميع طلبا لمشورتها أو دعمها، والتى تقود العمل العربي والأفريقي المشترك نحو ما يخدم مصالح الشعوب لا الاستعمار الجديد وانصاره في الداخل. *كاتب صحفي Email:[email protected] محمود عبد الرحيم محمود عبد الرحيم