ألف الشيخ الهروي كتابا ً صغيرا ً أسماه منازل السائرين .. فأراد ابن القيم رحمه الله أن يستدرك على شيخه الهروي في بعض المسائل .. فكتب شرحا ً طويلا ً لكتابه أسماه "مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين " .. ومن فرط أدبه مع شيخه قال : " مثلي ومثل الشيخ الهروي كمثل الهدهد مع سيدنا سليمان .. حيث وقف الهدهد على باب سيده سليمان ذليلا ً وهو يستدرك عليه بعض ما نسيه أو أخطأه قائلا ً "أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ " .. ويبقى الهدهد هو الهدهد وسيدنا سليمان هو النبي والملك العظيم . كانت هذه بعض مقدمة العلامة الزاهد ابن القيم لكتابه العظيم "مدارج السالكين" في شرحه لكتاب الهروي.. ويعلق على هذا الأمر العظيم الشيخ/ محمد الغزالي قائلا ً: " فانظر إلي أدب العلماء مع بعضهم بعضهم . فلم يتحدث ابن القيم بلغة التبذل أو الإهانة أو الشتم أو حتى لغة الردح السائدة الآن في أوساطنا.. فيقول مثلا ً جهالات أو سخافات أو سقطات أو ترهات أو غباءات الهروي " .. أو بالخيانة والعمالة التي تعم مجتمعاتنا الآن . هكذا كان ابن القيم الذي أريد اليوم أن أتحدث عن فكره .. فهو أرق كثيرا ً من شيخه ابن تيمية الذي كان شديد المراس في المنافحة عن الرأي الذي يراه .. وحادا ً في صراعاته الفكرية مع الآخرين .. وصارما ً في الشدة معهم . ابن القيم أو ابن قيم الجوزية ".. حيث كان أبوه ناظرا ً أو قيما ً بلغة عصره لإحدى المدارس العلمية . وهو تلميذ ابن تيمية الأشهر والأثير وصاحب الكلمات الرائعة والكتب التي تفيض علما ً وفقها ً وزهدا ً .. وهو من العلماء القلائل الذي جمع بين فقه السلف وزهد الصوفية .. وبين العلم بالله والعلم بغير الله .. وقد كان ابن القيم إماما ً وفقيها ًفذا ً وغير تقليدي .. وفي بدايته كان تلميذا ً نجيبا ً مقلدا ً لشيخ الإسلام ابن تيمية وكان وقتها دون العشرين من عمره .. ولكنه تراجع عن الكثير من آراء شيخه ابن تيمية .. بل إنه غير طريقته والكثير من أفكاره بل وطريقة عرض هذه الأفكار .. وكانت له كلمته المأثورة التي تبين أنه لا يقلد شيخه ابن تيمية في كل ما ذهب إليه وفي كل المعارك التي خاضها شيخه ابن تيمية مع طوائف فكرية ومذهبية كثيرة . ولذا يهتف ابن القيم دوما ً في كتبه قائلا ً: " شيخ الإسلام ابن تيمية " حبيب إلي قلوبنا ولكن الحق أحب إلينا منه" .. وكأنه يريد أن يعلن للدنيا كله استقلال فكره عن فكر شيخه .. وأن مرحلة تقليده لشيخه في كل شيء وهو دون العشرينات من عمره قد انتهت دون رجعة .. وأنه الآن يحق له أن يستدرك على شيخه ولكن دون تطاول أو تجاوز ولكن بمنتهى الأدب والخلق الجميل والاعتراف بالفضل. وقد قرأت معظم كتب ابن تيمية وابن القيم فوجدت أنا وغيري أن الجميع يحب قراءة كتب ابن القيم أكثر من كتب ابن تيمية لروعة أسلوبها وعذوبتها ويسر طريقته وسهولة عرضه مع اهتمامه الكبير بقضايا الزهد والتصوف وعلاقة العبد بربه وعدم دخوله في صراعات فكرية مع أي مذاهب أخرى.. ولو فعل فإنه يفعل ذلك بطريقة رقيقة هادئة. ولذلك اعتبر البعض أن ابن القيم أعظم أثرا ً من شيخه .. وأن الجميع يحب القراءة له .. حيث لم يحدث حوله الصراع والنزاع والجدل الذي ثار حول شيخه ابن تيمية . لقد كان ابن القيم مقبولا ً من الجميع من السلفية والصوفية والحنابلة والشافعية والسنة والشيعة .