وكأن قدر الرحيل كان رهنا بأن ينكأ جرحنا العميق في زمن صمتنا الجمعي الأعمق ، أن يتوسد معه ثري أرضنا المحتلة ذات الليلة ألفي شهيد و12 ألف مصاب من المدنيين الأبرياء ومازالت مدافع وغارات الصهاينة تعربد بلا شافع أو رادع أو رقيب ، يتحول جيش الدفاع العربي الي خيال مآته وأشجار جميز عتيقة عملاقة بالية الأوراق قزمة وعفنة الثمار ، فلا أكلت منها حشرات ولا فئران ولا حيوانات الغابة و لا أفلح المنتشرون حولها في التدفؤ بها شتاء ولا الخبيز علي حطبها أو التظلل تحتها حينما تصهل الشمس وتكوي الجلود ، ويتبدل بيت العرب علي نيل القاهرة بسباطة موز وأجولة من اللب وحبات الترمس واللوز لزوم سهرات الفرجة الشهية أمام التلفاز لمتابعة البث الحي للقصف والعدوان !!؟ . ها هو "سميح" يفتش في أردية نخوتنا العربية عن مظلة ودرع ورادع لعل وعسي يجدها ، منذ سنوات بعيدة وهو يشعل الأرض الخراب حوله بألق وسامق القصائد التي ظلت تقاتل وحدها دوننا : " تقدموا .. كل سماء فوقكم جهنم وكل أرض تحتكم جهنم .. تقدموا .. يموت منا الطفل والشيخ ولا يستسلم .. وتسقط الأم علي أبناءها القتلي ولا تستسلم .. تقدموا " . من حقنا إذا أن نزهو ونحن نواري عبق جثمانه الفتي ليلة أمس الي جوار عرفات وأبو جهاد وياسين وناجي العلي وأيمان حجي ومحمد الدرة وغيرهم من أفراس و نوارس بحر يافا وحيفا ، الي رماد بخور ارض رام الله ونابلس ، والي ايقونات القدس والخليل المضيئة من مخيم السهل المقدس بساحة الانبياء وكنيسة العذراء الي قبة صخرة السماء وبيت المقدس وأولي القبلتين ، نعرج من ليلة الإسراء، الي ليلة ليلاء ودعنا فيها كم شهيدا لم نعد ندري ، تدوي الزغاريد ثم تمضي صاحباتها بلا أنكسار أو ندب الحزاني وطلات النحيب المر . ها هو "سميح القاسم" أقحوانة ربيع أرضنا المحتلة وريحانة أرض الغضب ، زيتونة الأرق وشلال المبدع الملتاع من تلكؤ وطول خطبنا العصماء ، وتلال أبواقنا المكتفية بالغناء والعويل وتلقي واجب العزاء .. "والتشفي" .. يلحق بسماء الغضب الساطع "محمود درويش" وكم ذهب معه آسفا علي قوافلهم، تزور صيف وشتاء وخريف وربيع بحورالخطابة فيعجبهم جفافها ويستطيبون تواصل التمدد علي شواطئ الفرجة من بعيد وبالعيش الهانئ السعيد ، زعامة من ورق وفيافي فرسان الزمن الجميل القديم تبعث بصدى أصواتها تلعنهم ليل نهار ، يلحق "القاسم" بثري أنيسه الوسيم مثله والذي طالما لوع القلوب وأطفأ زيف الحناجر المشرعة والقوافي الراتعة في "وحل" بيع القضية . هم مازالوا هنا وهناك لا يصدقون أن "درويش" قرنفلة حدائق شعرنا المرصع بماس المواجهة المشع وألماظات مقاومة الجهاد النثري والشعري المعجزة قد استطاب له طعم الحنضل في فمه وفمنا فرقد رقدته الأخيرة علي مهل يحمل بلا تفريط فنان قهوة روحه المشرعة وزهرة قلبه الموجوع ، ويسبق زمن ودرب توأم روحه بعدة خطي ويصر علي أن يخبرنا باكرا بنبوءته الغريبة الثاقبة : " أعرف أنني أمضي الي ما لست أعرف ، ربما مازلت حيا في مكان ما ، وأعرف ما أريد ، سأصير يوما ما أريد ، سأصير يوما فكرة لا سيف يحملها الي الأرض اليباب ، ولا كتاب ، كأنها مطر علي جبل تصدع من تفتح عشبه ، لا القوة أنتصرت ولا العدل الشريد " . ثم تنهيدته الآثرة الأشهر لوجع الفراق : " الموت لا يوجع الموتي .. الموت يوجع الأحياء" . تماما مثلما راوغنا "القاسم" ليفلت من سرير مرضه القصير الطويل راسما في سماء فناء دورنا العربية بيتا .. بيتا .. قصيدته الذائعة الرائعة : " أنا لا أحبك ياموت .. لكنني لا أخافك ، وأدرك أن جسمي .. وروحي لحافك ، وأدرك تضيق علي ضفافك ، أنا لا أحبك ياموت .. لكنني لا أخافك ". لقد تحولوا في لمح من نهار قصير وليل مارد الي أوسمة ونياشين وشهادات ميلاد تكتب بالدم والدموع ، ينزف بين قصائدهم المستحيلة بحرنا الاحمر ، يرتدي وقت إذاعة الرحيل الأول والأخير أشرعة بيضاء في طهر وبياض ونقاء "المسيح" ، ورقة كليم الرب "موسي" ، وحبيب الله "محمد" ، ومابين أنجيل وتوراة وقرآن يحفظون معا لحن السماء الذي شدي معه "درويش" وصعد اليه "القاسم" : " الغضب الساطع أت وأنا كلي ايمان ، وسنهزم وجه القوة ، لن تغلق باب مدينتنا " . وينشدنا "القاسم" عابرا من غربته الأولي الي غربة الوداع : " ياأيها الموتي بلا موت ، تعبت من الحياة بلا حياة ، وتعبت من صمتي ، ومن صوتي ، تعبت من الرواية والرواة ، ومن الجناية والجناة ، ومن المحاكم والقضاة ،وسئمت تكليس القبور ، وسئمت تبذير الجياع علي الاضاحي والنذور " . فيا نجما "قاسما "علي مفارق الدروب الوعرة الطويلة ، لحقت "بدرويشك" راهب الشعر المدلي كعنقود من كروم وزيتون وبرتقال وليمون مازال يثمر غصبا وطوعا بين أسمنت وحديد وأسلاك الجدار الفاصل المدجج بالعسكر والعيون الالية والبارود ، لن ينطفئ علي طول المدي ضيك ولا ضيه ، ودعناك خلفه .. أم ودعنا شمس العروبة الغائبة .. بلا ... مدي ؟! . سميح القاسم ومحمود درويش سميح القاسم ومحمود درويش