أن تذهب لرائحة الموت طوعاً فأنت غالباً تبحث عن يقين الحياة وكنهها ، وساعة ما تقرر أن تكتشف حالة الصمت والسكون بأجساد الموتى وهم لا يملكون حراكاً أو قوة أو حتى أدنى مقاومة فأنت تشارف منطق الإنسانية ، هذا ما حدث بالفعل في أثناء مراسم غسل وتكفين بعض الفقراء الموتى ممن لا يملكون هوية أو بطاقة تعريف ، وأنت حينما تقترب من جسد من فارق هوس الاهتمام بدنيا ما هي إلا لهو ولعب وتفاخر وزينة تدرك على الفور أننا أمام يقين مطلق وهو الموت . ويهتم المصريون في العادة بأخبار الموت ونهاية قرار الإنسانية أكثر من اهتمامهم بالحياة والمعيشة الحاضرة، وهذا الاهتمام ليس بغريب على المصريين لأنهم ورثوا حضارة الفراعنة العظام الذين كان جل أمرهم في صناعة الخلود الذي يعقب الموت طبقاً لمعتقداتهم ونظرياتهم التي صنعوها بأيديهم. لذلك تجد المثقف منهم يهتم بالصفحات التي تتضمن أخبار الوفيات، ومن مات ومن صعقه التيار الكهربائي، ومن فقدت ساقه في حادث سيارة. ومنهم من يهتم بأدوات صناعة الموت في حياته، فيهتم بإعداد مدفنه الخاص ، ويقوم بتزيينه وتجديده وإعماره حتى يستقبل صاحبه. وبالرغم من أننا كبشر نميل بطبعنا إلى الحياة والسعادة والظفر بألوان الابتهاج والفرح ، إلا أن كل واحد منا تجده منجرفاً إلى فلسفة الانتهاء، وتجده يستقبل أخبار الموت وفقدان الأهل والأصدقاء والجيران بنوع من الانتشاء الداخلي ليس شماتة معاذ الله ، بل لأنه ينتمي إلى ثقافة أمة شيدت حضارتها ومعالمها على فكرة الخلود والانتظار لحياة أخرى تجئ لاحقاً. ويرى كثيرون من المصريين خيراً في الموت ،حيث إنه نهاية لمن شغل بالدنيا، ولمن سرقته الحياة من نفسه وذاته، فأصبح ينتظر جديداً يفاجأه بغير ميعاد. وغريب من يخاف موته رغم أنه صنع حياته بتفاصيلها وأحداثها اليومية الحاسمة والفاصلة فيها، فعندما يموت ستموت الدنيا كلها معه لأنها من صنعه. وكلما سمعت أو وجه إلي سؤال مفاده إلى أين يتجه الوطن ؟ أجد حرجاً في الإجابة ، إلا بعد مكاشفة هذه التجربة العجيبة تيقنت أن البلد إلى أن يشاء الله تعالى في طريقها إلى الداهية بلغة المصريين البسطاء وأيضاً النخبة الذين غاصوا إلى أعماق الجدل السياسي البغيض ، ففي مستشفى المنيا العام وهي إحدى المستشفيات الكبيرة بالمحافظة التي يديرها محافظ أيضاً ، ويدير المستشفى طبيب متخصص في الطب ينتمي إلى هؤلاء المعتصمين تارة والمضربين عن العمل تارة أخرى من أجل زيادة الرواتب أو الحوافز رغم أنه من المفروض تدشين تظاهرة لحقنهم بمصل الإنسانية التي بالفعل غابت عنهم جميعا . في المشرحة ملامح مدهشة حقاً ، فالثلاجات المخصصة لحفظ الموتى لا تعمل ، ومراوح الهواء معطلة ، والنوافذ صارت قطعاً خشبية متناثرة ، ونفايات هنا وهناك ، ولا أعلم ما هذه المياه المهدرة على أرضية غرفة المشرحة في الوقت الذي نتباكى فيه على نهر النيل وذكرياته ونلعن الجغرافيا صباح مساء وونشجب السياسيين الفاشلين في حل مشكلة سد النهضة ، هؤلاء الموتى هم ضحايا الطرق السريعة والفقر وضياع الهوية الورقية ماتوا مرتين ؛ مرة بسبب ما تعرضوا من حوادث متباينة ، ومرة أخرى بسبب التقاعس المتعمد من الأطباء والمسئولين المهللين بزيادة الرواتب والحقيقة أن أفقر رجل غني وثري لا يذهب إلى أي طبيب مصري أو إلى أي مستشفى مصرية لأنه على علم ويقين بحال ومقام الطب في بلادنا المحروسة. ولأنني من هواة إلقاء الأحجار غير الكريمة على رؤوس كل من يرى في نفسه شرف حكم مصر ، فإنني أوجه تلك السطور إلى المرشحين المحتملين لرئاسة مصر ، الذين يجتمعون مع الرياضيين والصحافيين والأكاديميين وأنا منهم ولست فيهم ، والإعلاميين ، وروابط المرأة والطفل والأيتام ، وعلماء رغم أنني اندهشت من وجود علماء في مصر من الأساس ، وشيوخ وقساوسة ، هذه مصر الحقيقية التي تهدر الإنسانية ، هذه مصر المسكينة التي لا تحتاج إلى أموال ومعونات وخدمات طبية ، واختراعات عجيبة افتراضية تعالج أمراضاً مزمنة خطيرة ،مصر تحتاج فقط إلى إنسان يدرك صفاته التي أودعها الله تعالى فيه من رحمة . وصدق رسولنا الأكرم ( صلى الله عليه وسلم ) حينما قال : " لا تنزع الرحمة إلا من شقي " ، فهؤلاء المتظاهرين بحقهم في زيادة راتب من أجل شراء محمول خلوي جديد ، أو بناء الدور الخامس المخالف في بنايته التي جاءت عن طريق مداواة المرضى لم يكترثوا بإنسان فقد حياته وهويته وبالتأكيد فقد الرحمة من أولئك الوجوه العابسة . ولن أكون رحيماً بك أيها القارئ لذا سأخبرك بحجم الدود المتناثر والمتجمع بتلك الجثث المتعفنة بأمر القائمين على مستشفى المنيا العام ، وإذا كان هناك رجال ونساء يذهبون كل يوم إلى النادي والكوافير والساونا ويلعبون التنس ويشاهدون الأفلام في أفخم صالات العرض ولا يعلمون أن بمصر ثورة قائمة بالفعل وأن المشهد السياسي محتدم ومضطرب ، فليتهم يفطنون أن بعضاً من البشر يقبعون بمشرحة خاوية من كل مظاهر وملامح الإنسانية ، لدرجة أنهم لا يجدون يداً قوية تشرف على تغسيلهم وتكفينهم مما هم فيه . وكم غريب أن تظل بعض هذه الجثث طيلة ثلاثة أشهر ، فأين قرارات النيابة بالدفن ، وأين عامل الكهرباء لكي يقوم بتوصيل السلك المتهالك إلى ثلاجات المشرحة ، وأين النجار الذي سيكلف بترميم النوافذ الخشبية المصنوعة في عهد الملك فؤاد قبل أن ينجب ابنه فاروق الأول ملك مصر والسودان قبل أن يتخلى عنها جمال عبد الناصر ليصير فقط رئيس جمهورية مصر العربية والمتحدة والاشتراكية وغير المنحازة . عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : " جعل الله الرحمة مئة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً ، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه . وكم جميل ألا نرى جزء الرحمة في المشاهد الكاذبة التي لا تحمل إلى كل نفاق أو تحقيق مصلحة أو دعاية موجهة لتحقيق مأرب أو غاية شخصية ، هذه مصر أيها السادة المرشحون ، هذه مصر لكل من يفكر أن المحروسة وطناً سائغاً للحكم والإدارة ، هذه مصر المعضلة التي تحتاج إلى معجزة إلهية من أجل النجاة أو طوفان جديد ولنغرق معاً . وكنت أتمنى أن أقدم صورة رومانسية للمصريين في احتفالهم المكرور والباهت بشم النسيم ، لكن حينما نرى أن الطيور مصابة بالأنفلونزا ، والهواء اختلط بفحم الكهرباء المتوقع ، والسمك بأنواعه في طريقه للموت غير المفاجئ ، فإن صفعة واحدة تكفي لإيقاظهم من سباتهم العميق . ورغم أن الموت أمر جلل وحدث عظيم في تاريخ الإنسانية إلا أنه أحد مظاهر العدل في هذا الكون الملئ بالصراعات والتحزبات والاتجاهات المتباينة، ذلك لأنه لا يفرق بين الفقير المعدم والغني المنعم . كما أنه يمثل راحة لكل منها ؛ للفقير الذي ظل يعاني طيلة حياته من الاستبعاد الاجتماعي والأدبي نتيجة لفقره، وللغني الذي عذبته أمواله وقيده ثراؤه ، فتجده في الدنيا قلقاً مضطرباً متوتراً ماذا سيصنع في غده. وليتنا نفكر قليلاً في أمر ظهورنا على سطح الحياة ، فكلنا يبكي عند ولادته، أما الموت فلا يبكي أحد منا ، بل يبكي الجميع علينا ، رغم أن معظمنا لم يصنع شيئاً للإنسانية يذكر مثلما فعل الخالدون كالنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وبعيداً عن التفسيرات النفسية والطبية والشعبية عن هذه الظاهرة ، ربما هذا البكاء المعلن اعتذار مسبق منا على ما سنفعله من سلوكيات وتصرفات بعضها مخزي والبعض الآخر يدعو إلى الخجل والعار. وفي هذا الصدد قال الكاتب الأمريكي هنري : لقد عشت هارباً من الماضي الفاضح الذي حاولت باجتهاد أن أخفيه عن زوجاتي وأولادي وجيراني ، أما الآن لا أريد أن أذهب إلى الحياة الأخرى كأنني هارب من حياتي الأولى الفاضحة، وأمر أهله بأن يضيئوا أنوار الحجرة فلم يعد ما يخافه الآن. وهذا حق فصناعة الحياة تعلم الخطيئة والخطيئة فضيحة وما أجمل أن يكف الإنسان عن الخطيئة فجأة. وإذا كان بعض المتهوكين الذين يطلبون الرحمة أمام عدسات الكاميرا وأمام طاولات المنتديات الحوارية أو الذين سمعوا عن المشرحة ولم يتشرفوا بزيارتها ، وإلى أولئك المحرومين من الإنسانية لهم أنشد نظم الشاعر الاستثنائي محمود درويش في رائعته الشعرية " فكر بغيرك " لعلهم يدركون قدر الإنسانية بقلوبهم : " وأنتَ تُعِد فطورك، فكر بغيركَ لا تَنْسَ قوتَ الحمام وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكر بغيركَ لا تنس مَنْ يطلبون السلام وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكر بغيركَ مَنْ يرضَعُون الغمام وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكر بغيركَ لا تنس شعب الخيامْ وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكر بغيركَ ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكر بغيركَ مَنْ فقدوا حقهم في الكلام وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك قُلْ: ليتني شمعةُ في الظلام" .