جاء قرار الدكتور محمد البرادعي بانسحابه من معترك الانتخابات الرئاسية القادمة مفاجئًا للجميع، سواء من المؤيدين للرجل أو من المعارضين، وكما ذكر الدكتور البرادعي فإن أهم الأسباب التي دفعته للتراجع عن الترشح للرئاسة؛ هو أن مصر لا تعيش ديموقراطية حقيقية حتى الآن، بعد مرور عام كامل على الثورة. كما أن تجربة الانتخابات البرلمانية التي تمت في مصر مؤخرًا، رغم نزاهتها، إلا أنها لم تتم بشكل ديموقراطي، فلم تكن انتخابات سياسية بالمعنى الحقيقي، يختار الناخب فيها المرشح سواء كان فردًا أو حزبًا اعتمادًا على برنامجه وفكره السياسي والإصلاحي؛ ولكن ما حدث هو أنه تم استغلال الدين كأساس لاختيارات الناخبين، فكانت أقرب إلى الانتخابات الطائفية، يختار فيها الناخب بين الجنة والنار، والمسلم والمسيحي، والسلفي والإخواني، والديني واللاديني، بعيدًا عن البرامج الحزبية الحقيقية، والرؤية السياسية والمستقبلية، وتقديم الحلول الواقعية لمشكلات البلاد. كما أكد الدكتور محمد البرادعي أن انسحابه من الانتخابات الرئاسية لا يعني اعتزاله الحياة السياسية، بل أنه سيعود، مواطنًا عاديًا، إلى صفوف الثوار في الميدان، حتى تستكمل الثورة أهدافها واستحقاقاتها العادلة. رغم واقعية هذه الأسباب التي أوردها الدكتور البرادعي لانسحابه من الانتخابات الرئاسية القادمة؛ إلا أنني أرى أنه قرار صائب مائة في المائة، لكن لسبب جوهري آخر يقف وراء هذا الانسحاب المفاجئ، ويتلخص في تأكد الدكتور محمد البرادعي من أن فرصة نجاحه في الانتخابات الرئاسية القادمة تكاد أن تكون شبه منعدمة. والسبب في ذلك ليس لعوامل تتعلق بشخص الدكتور البرادعي، بقدر ما تتعلق بما ردده كثير من المحللين عن وجود صفقة بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين؛ وإن كنت لا أميل إلى استخدام كلمة صفقة، وأفضل كلمة اتفاق أو توافق بشأن سيناريو مستقبل مصر بعد الثورة، بما يحقق مصلحة طرفي الاتفاق، ومصلحة مصر كلها في ذات الوقت. تؤسس الجماعة بموجب هذا الاتفاق أو التوافق حزبًا سياسيًا، وهو حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي للجماعة، وأن تجرى الانتخابات أولاً ثم يتم وضع الدستور، الأمر الذي لم يلقَ قبول معظم القوى السياسية الأخرى، وبخاصة القوى الثورية التي نشأت من رحم الثورة، ومازالت حديثة لا تتمتع بوجودٍ كافٍ في الشارع المصري. وأن يضمن المجلس العسكري للعملية الانتخابية أن تتم بنزاهة وشفافية، الأمر الذي يضمن للجماعة وحزبها أن تحصد أغلبية المقاعد بمجلس الشعب، نظرًا للوجود الشعبي للجماعة في الشارع المصري، وانتشارها في كافة مدن وقرى مصر ونجوعها، إلى جانب ما تتمتع به الجماعة من تنظيم شديد وخبرة كبيرة بالعملية الانتخابية، وكلها أمور لا تتوافر للقوى السياسية الجديدة. هذا ما يقدمه المجلس العسكري للجماعة بموجب الاتفاق المزمع، وهو ماحدث بالفعل، وبذلك يكون قد وفى المجلس بوعده للجماعة، في مقابل أن تترك الجماعة اختيار رئيس الجمهورية للمجلس العسكري، على أن تدعمه الجماعة بوجودها الكبير في الشارع، وإمكاناتها المتعددة في حشد الناخبين، ومن ثم يضمن المجلس العسكري للشخصية التي وقع اختياره عليها النجاح في الانتخابات الرئاسية القادمة، وهو أمر ليس بجديد على الجماعة؛ فقد سبق وأن حشدت الناخبين ليقولوا نعم للدستور، وربما كان هذا أيضًا جزءًا من الصفقة، إلى جانب أن تترك الجماعة الحركة الثورية ومطالبها العديدة التي لم تتحقق بعد، وهو أمر ملحوظ في غياب الجماعة عن الجولات الثورية المتلاحقة التي شهدتها ميادين مصر منذ تنحي مبارك عن الحكم في 11 من فبراير 2011، هذا فضلاً عن الخروج الآمن للمجلس العسكري. وبالطبع هذا الشخص الذي سيتم التوافق عليه لرئاسة الجمهورية، والذي سوف تحشد له الإخوان المسلمين الناخبين، بما يضمن له النجاح، ليس هو الدكتور محمد البرادعي، فالبرادعي ربما يكون في توجهاته ما يجعله يصطدم مع المجلس العسكري، في حالة توليه الرئاسة، ومن المؤكد أن البرادعي أيضًا أبعد ما يكون، بفكره الليبرالي المتحرر، عن فكر الجماعة وحزبها الذي يرتكز على أساس ديني في مجمله. إذن الدكتور البرادعي بانسحابه لم يخسر شيئًا في ظل هذا الواقع المعاكس، الذي سيحكم الانتخابات الرئاسية القادمة، وما كان يملك غير الانسحاب والعودة لصفوف الثوار، فضلاً عن تسجيل موقف ضد هذه المنظومة الحالية التي ستفرز الشخص الذي تريده رئيسًا للجمهورية. وهذا ما أكده أيضًا فضيلة المرشد، الدكتور محمد بديع، في حواره مع عمرو الليثي، حينما قال إن رئيس الجمهورية القادم لم يظهر بعد، وأنه ليس من بين المرشحين حاليًا على الساحة، وأن الجماعة لن تدعم أي فرد من المرشحين الحاليين، ومن بينهم بالطبع الدكتور محمد البرادعي. ولعل ما بث الطمأنينة في نفسي وفي نفوس الكثيرين من جموع الشعب المصري، هو ما أكد عليه فضيلة الدكتور بديع في الحوار نفسه، من أن الشخص الذي ستدعمه الجماعة سيكون شخصية مدنية وليست عسكرية، وأنه سيكون شخصية توافقية من الداخل والخارج، وليس شخصية من الشخصيات المحسوبة على التيارات الإسلامية، وذلك تأكيدًا بأن الجماعة تدعم وتؤيد مطلب الدولة المدنية، وتدرك جيدًا الأبعاد الدولية والظروف المحيطة بمصر، التي لاتسمح لمصر، كما أنه ليس من صالح مصر الآن، بأن تكون شخصية الرئيس محسوبة على التيارات الإسلامية. ولكن على الجانب الآخر، والكلام هنا لفضيلة الدكتور محمد بديع، ما يؤرقني ويؤرق الكثيرين من جموع الشعب المصري، أن نكتفي في شخص الرئيس في المرحلة الراهنة، فقط بالشخصية المدنية والبعيدة عن التيارات الإسلامية، ونقع في فخٍ آخرٍ واسعٍ وعميقٍ، وهو أن يأتي شخص الرئيس مدنيًا وبعيدًا عن التيارات الإسلامية، ولكنه من الشخصيات المحسوبة على النظام البائد، وعملت معه لسنوات طويلة. وآنذاك لن يكون لهذا الاختيار سوى معنى وحيد، هو الانقضاض والقضاء على الثورة واستحقاقاتها العادلة، والعودة بنا شيئًا فشيئًا إلى النظام البائد، الذي سفكت الدماء، وأزهقت الأرواح، وفقعت الأعين، من أجل التخلص منه، هذا النظام البائد برأسه وذيوله. والله على ما أقول شهيد.