"1" كان لا بد للقارئ العربي أن يقرأ في الأثر: "لا يكتب الكاتب حين يكتب وهو عارف، ولا يقرأ القارئ حين يقرأ وهو جاهل"، فالمعرفة لا تتوفر للكاتب إلا بعد الكتابة، أو بالأحرى وقتها، كما أن القارئ الجاهل ليس جاهلا تمامًا، وعلى قدر عزمه وثقافته يتواصل مع ما يتناوله بالقراءة، يتساوى الكاتب والقارئ في طرق اكتساب معارفه الجديد، إذ أن المحرض على الكتابة هو الجهل في الوقت الذي ستكون المعرفة فيه عائقًا، كما أن المحرض على القراءة هو الجهل في الوقت الذي ستكون فيه المعرفة اكتفاءً؛ الكتابة تفكير والقراءة كذلك، كما أن التفكير قراءة والكتابة قراءة في الأساس، وبذلك نصل إلى نتيجة مفادها أن الكتابة تفكير وقراءة معًا. أنت تقرأ ذاتك والعالم حين تمارس الكتابة، وترصد الحالات الجدلية المتنوعة بين ذاتك والعالم بالكتابة، وتتخلص من أفكارك البالية حين تقرأ أفكارًا جديدة، لتصير القراءة فقدًا قبل أن تكون اكتسابًا. ولعل هذا هو السبب في أن المهتم بالقراءة هو أقلُّ الناس تعصبًا، وأكثرهم تشكُّكًا. فماذا لو تخيلنا أن عقل الكاتب لا يقلُّ بياضًا عن الورقة التي يكتب فيها، وعزيمته التي دفعت به إلى أن يمسك بالقلم لا تقل عن عزيمة فلاح رفع الفأس على كتفه وأراد أن يجعل الصحراء بستانًا، وفي الوقت الذي يعتمد فيه الفلاح على الغيث، يعتمد الكاتب على الغيب، لا طقوس للكتابة عند الكاتب الحر، كما أنه لا مواسم للزراعة عند الفلاح المتمرد. يعرف الكاتب من كتابته بعد الكتابة، كما يأكل الفلاح من عمل يده بعد الزراعة. ويفرح الكاتب إذا منحته الصدفة نصوصًا جديدة، كما يفرح الفلاح إذا نمت فاكهة الصيف في الشتاء والعكس، ليقول في نفسه: في الجنة فقط أستطيع أن آكل فاكهة الصيف في الشتاء؛ أنا هنا في الجنة.
"2" حاولْ أن تتذكَّرَ شخصًا ما، ولكي تستمر في عملية التذكر/ الكتابة، لا بد أن تكون ذاكرتُك ضعيفةً جدًّا، أو أنك لم تقابلْ هذا الشخص على الإطلاق، تحلَّ بالصبر والإيمان بالمغامرة لتصير بطلاً بالكتابة/ التذكر. وإن افتقرت إلى بعض الأحداث التي تعينكَ على المغامرة استعن بالوهم، فوهم الآن هو حقيقة الغد، بعد أن اكتشفنا أن حقائق الأمس غدت أوهامًا اليوم. أليست الكتابة مجرد القدرة على تلفيق ذكريات مشتركة بين الكاتب والقارئ، وعقد صداقة متجددة بيننا وبين الأشياء الغريبة والأحداث التي لم تحدث. وبذلك تصير الأشياء الغريبة مألوفة، ولو عن طريق الوهم، والأحداث التي لم تحدث نؤمن بأنها حدثت، ولو في الوهم أيضًا؟ "3" يبدو أن معاشرة الحياة يولِّد شبقًا زائدًا عن الحد، شبقًا لا يُحتمل، ولا نُطيق الحياة به ولا بدونه في آن، من وقت إلى آخر نحتاج إلى التفريغ بعد الامتلاء، لنكتسب النشوة التي تمنحنا الفرصة للامتلاء ثانية بشبق الحياة، وهكذا إلى ما لا نهاية.. والامتلاء بشبق الحياة لا يتعارض مع الجهل الذي يدفع الكاتب والقارئ على السواء إلى المعرفة، فهناك جهلان من وجهة نظري: جهل يدفع إلى المعرفة، وهو الجهل الشَّبِق، وجهل يدفع إلى الاكتفاء، وهو الجهل الخصِيّ.. الجهل الشَّبِقُ يحرِّض الصيَّاد/ الكاتب على أن يوجه بندقيته/ قلمه تجاه فكرة/ عصفورة تحلق في سماء الخيال، ولا تستقر إلا على غصن الوهم، واضحةً كالسراب، وخفيفةً الروح كالسحابة. أما الجهل الخصي فلا صورة له عندي إلا أنه كالجهل الخصي، عدمٌ يفضي إلى عدم.