"الضنا غالى" و"أعز الولد ولد الولد" و"ما يعرفش قيمة الابن غير اللى اتحرم منه ولا يعرف قيمة القرش غير اللى تعب فيه"، و"اللى ليه ظهر ما ينضربش على بطنه"... تلك ببساطة أسس الشخصية المصرية البسيطة التى تقبل بأشياء كثيرة وتتحمل الكثير ولكن لديها خطوطها الحمراء الكبرى التى تشعرها بالظلم فتتجه لمن هو أعظم، تتجه للخالق لتسأله العون والصبر والقصاص من الظالم وهى نفسها الصورة التى تواجدت على هامش حكم البراءة الذى حصل عليه المتهمون فى قتل الشهداء فى أحداث السيدة زينب. نقلت لنا ردود الفعل حديث آمهات مكلومات عن التضحية التى قدمت من أجل تربية الابناء، عن تفضيل الابناء بالموارد المحدودة و"اللقمة" المتاحة، والتوجه إلى الرحمن للاقتصاص من الجناة فالعدالة على أرض مصر صارت لعقود انتقائية فى تنفيذها وآلياتها وفقدت مع أشياء كثيرة جزءا كبيرا من مصداقيتها.
جاءت المحاكمة بعد تأجيل محاكمة الرئيس السابق مبارك ونجليه ووزير داخليته حبيب العادلى وغيرهم فى قضايا تتعلق بالمال العام والقتل أيضا، فجاءت منذرة بما يمكن أن تصل إليه النتيجة ما دامت الأسس واحدة والأسانيد واحدة على ما يبدو ليصبح لسان حال الوطن التوجه للرحمن بالدعاء أن يحل عدله وكرمه على أرض المحروسة.
وفى هذا المشهد نجد أنفسنا أمام نقطتين أساسيتين فمن جانب هناك فكرة القانون نفسه وإعماله، ومن جانب هناك فكرة الثقة الاجتماعية فى المؤسسة المعنية بالقانون فى شق التحقيقات وجمع الأدلة وفى شق التقاضى وأصدار الأحكام. وخلال عقود أصبحت الصورة الخاصة بالكثير من المؤسسات فى مصر مشوهة والثقة فيها إما ضعيفة وإما مفتقدة ومنها بالطبع الجهات المعنية بضبط المتهم والتحقيق معه، بالإضافة إلى بعض التشكك فيما يخص مؤسسة التقاضى ذاتها نتيجة لحالات مختلفة كانت تبرز عبر الوقت وجود عوامل أخرى غير القانون تحكم "العدالة" وتجعلها حلما بعيدا فى واقع ظالم.
أصبحنا بعد الثورة أمام تحد أساسى لجميع المؤسسات ولقدرتها على التحول لتمثيل الجماهير ومصالح الوطن بدلا من تمثيل فئة محدودة وحماية كراسى السلطة. ولكن علامات الفرح والانتصار لم تدم كثيرا وانتهت الفرحة وجاءت السكرة وأصبحنا أمام الحقيقة التى ترى بالعين المجردة وتزايدت دعوات المظلومين فى وجه الظلم المستمر، وتزايد ارتفاع الأكف تضرعا للرحمن أن يأتى القصاص منه بعد أن دمع القلب والعين وعجز الحق عن الوصول لطالبه وصاحبه.
ظهر الظلم واضحا فى طريقة معاملة المساجين من أصحاب الأيدى الناعمة حيث تم سجنهم ومعاملتهم بوصفهم طبقة خاصة سواء فى مرضهم أو فى محاكمتهم وفيما يتاح لهم من مميزات، كما ظهر واضحا فيما أتيح لهم بحكم المال والجاه والسلطة التى لم تمت بعد من محامين وأمكانيات وفرص، وما أتيح لهم من عدالة لم تتح للمصريين خلال عقود حكمهم.
أكرر دوما أننا نريد مصر كدولة قائمة على المؤسسات وإعمال القانون وأننا لسنا فى حاجة لإعمال آليات انتقامية تجاه أى أحد ليس حبا فيهم ولكن حبا فى مصر وحبا فيما نرغب فى تأسيسه من دولة قانون ومؤسسات. ولكن يبقى السؤال المهم هل ما يحدث من إجراءات وما يقدم من مسوغات كافيا لأحكام البراءة فعلا؟ وهل يدشن هذا لبراءة الجميع باسم القانون الذى يدار بآليات وأسس وقواعد وضعت أثناء عقود الظلم ذاتها؟ وبالمجمل هل لدينا بالفعل القوانين والمؤسسات القادرة على الانفصال عن النظام المراد إسقاطه والوصول لأحكام تقنعنا جميعا أفرادا ووطنا أننا أمام عدالة وتقاض نزيه حتى وان وصلنا فرضا لحكم براءة؟
بعد البراءة تحدث محام من المدافعين عن أحد المتهمين وأكد أن الحكم مستند لأوراق وأسانيد وأن المحكمة لا تحتكم للشواهد ولكن لما لديها من أدلة، مضيفا أنه هو شخصيا تعجب من الحكم بالبراءة على اثنين من المتهمين رغم وجود بعض الشواهد الأقوى ضدهم ولكنه فى النهاية أمام قرار محكمة. مضافا له تصريح لمحام آخر من المدافعين عن حق المدعين بالحق المدنى من "ركاكة" الأدلة المقدمة والتساؤل حول عمل النيابة العامة وما قامت به كأسس للقضية. توقفت أمام تلك التصريحات لأنها تعبر عن تلك النقاط التى أشرت إليها فمن جانب هناك "الأوراق" و"الأدلة" والتى يبدو من أحراز جلسة مبارك وغيره أنها غير كافية لبناء قضية متماسكة تماما كما قيل مع جمع الأدلة فى أحداث أخرى بعد الثورة مثل أحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء، ومن جانب آخر فإن التشكيك الذى عبر عنه المحامى يقع فى قلب التشكيك فى التقاضى كشق آخر فى العملية القانونية التى نحن بصددها. وبالتالى نجد أنفسنا أمام مشهد متكامل الأركان من عدم الثقة أولا وافتقادها ثانيا والتشكيك فيها من قبل البعض الآخر ثالثا. ولأن المحكمة أو القانون أعمى خارج نطاق الأوراق والأدلة المقدمة فإن نقطة الضعف التى تبدو محل تساؤل الآن من شأنها أن تضيع حق الوطن ككل وأن تشعل نيران الغضب أكثر على ممارسة علنية للظلم وحكم براءة قاتل لأفراد ووطن إن استمر صدوره تحت واقع الشك وغياب الثقة.
ويصبح السؤال هل من الحكمة التسريع بالتقاضى وإصدار أحكام مماثلة بالبراءة فى نظام مشوه ويحتاج لتغيير هيكلى أم أن الأفضل التمهل وإعادة النظر فى الأدلة والأسانيد المقدمة وإعداد جبهة دفاع قوية عن حقوق الشهداء والوطن؟ هل وصلنا فعلا لحالة الثقة فى المؤسسات القائمة أم أن الثورة تعنى التحقق من حدوث التغيير المراد فى تلك المؤسسات أولا قبل إخضاعها لتلك التجربة التاريخية؟ والا تطرح كل التساؤلات المثارة من بعد الثورة المزيد من التشكك فى قدرة النظام الحالى على الوصول لنتائج تحظى بالثقة لدى الجماهير وما قضية عصام عطا عنا ببعيدة؟
يقال لا تثق قبل أن تختبر ويبدو أننا وثقنا أن لدينا ثورة، وافترضنا أنها نجحت بمجرد تأكيد مبارك من زنزانته على حضوره، ولكننا لم نختبر فاعليتها ولم نتفهم أن الحضور داخل قفص لا ينفى امتداد الحضور خارجه فالعقود السابقة لم ولن تنتهى فى لحظة، ويبدو أننا اختبرنا الثورة بالمزيد من السحل والتعرى والعدالة الانتقائية إن صح أن تسمى عدالة والبراءة القاتلة للضحايا ووطن يرفع أكفه متضرعا إلى الرحمن أن يقتص ممن ظلمه ولازال.