يقال فى المثل الشعبي أن الصدق منجاة، ولكن تلك الفضيلة مازالت غائبة بكل صورها عن الواقع السياسي فى مصر، فقد نتفق أن جزء كبير من السياسة قائم على عدم الإفصاح، وعلى الإسرار، ولكن ليس الكذب بالضرورة، كما أن هناك شق مهم قائم على المكاشفة والمحاسبة، وهو ما يرتبط بالدولة ودورها وأسس قيامها كدولة ديمقراطية. ولعل أحد المشكلات الرئيسية في مصر أن السياسية ظلت حكرا لفئة قليلة تعبر عن قمة هرم السلطة وبعض المنتفعين منه، في حين ظل عموم الشعب بكافة أطيافه خارجها، وإن تماست بعض الفئات مع السياسة وعالمها، فإن هذا التماس ظل على الهامش أحيانا، وفي قلب السلطة، منظرا لها أحيانا أخرى، أو معارضا لها أحيانا ثالثة، دون قدرة على الإسهام في تشكيلها بما يتناسب مع احتياجات الشعب المصري والدولة المصرية. المشكلة أن الشق الذي يفترض فيه أن يقوم على أساس المكاشفة والمصارحة، والمتعلق بإدارة الدولة وشئونها، وبالحقوق والحريات، وبالقانون والعقوبات، ظل في مساحة الأسرار، رغم أن تلك الأبعاد وغيرها تقوم في الدولة الديمقراطية على أساس الإعلان، ليس تفضلا من أحد، ولا بمبادرة شخصية، أو كتحرك يقتضي توجيه الشكر والثناء من أحد، ولكن بوصفه جزء من المؤسسية ودولة القانون. فعندما تؤسس الدولة بشكل سليم تصبح الحقوق حسب الأدوار، وهو ما يعني وجود علاقة بين ما يحظى به الشخص أو المؤسسة من مكانة، وبين الدور الذى يقوم به الشخص أو المؤسسة، وكيفية أداء هذا الدور، وبهذا تصبح العلانية جزء أساسي من النظام، بما يمكن من تأسيس حالة من الثقة في المؤسسات القائمة. وهو ما يمكن من المحاسبة وكشف الفساد ومعاقبته وضمان حقوق الإنسان ومعاقبة من يعتدي عليها تحت أي دعاوى. وبالمجمل يتعلق هذا الشق بقضايا مهمة لأنها تمس القانون والعدالة كعناصر ضرورية لا يمكن للحياة فى الدولة أن تستقيم بدونها وبدون أسس ضمانها، ممثلة في سيادة القانون والمحاسبة، ولأن انتفاء العدالة أو الثقة في مؤسسة العدالة أحد مظاهر وجود أزمة كبرى في المجتمع، وهو أمر ليس بعيد عن المشهد المصري، خاصة في شقه الأمني السابق على شقه القضائي، بالإضافة لشق المحاسبة على الخطأ المرتبط بشقه القضائي.
ولعل التساؤل الآن: ما هى العلاقة بين فكرة القانون والثقة في مؤسسة العدالة من جانب، وأحداث ماسبيرو والتعامل معها من جانب أخر؟ قد يبدو الحديث و كأنه عن مسألتين مختلفتين، ولكن في العمق تبقى القضية واحدة، ففي مصر ما قبل الثورة كما فى مصر ما بعد الثورة. وحتى الآن تعمل السياسة بوصفها أسرار، ويفتقد المواطن الثقة في المؤسسة الأمنية والمؤسسة القضائية المعنية بالتعامل مع ملف ماسبيرو، ناهيك عن أن فكرة العدالة الغائبة هي خلفية ما يحدث، سواء في أحداث ماسبيرو أو فى عموم الأحداث في مصر.
فعلى الرغم من حجم القلق المثار حول القضاء العسكري وإحالة المدنيين إليه تم تحويل الملف إلى القضاء العسكري، ومع أداء المؤتمر الصحفي وما ارتبط به من نفي أي مسئولية للقوات المسلحة عما حدث، أصبحت قضية الثقة مضافة لقضية فكرة القضاء العسكري كمصادر مضافة للغضب، وتوجيه النقد ورفع درجة القلق وعدم الثقة، باعتبار أن الخصم والحكم جهة واحدة. وبهذا تحول ملف استدعاء علاء سيف للتحقيق معه على خلفية أحداث ماسبيرو وحبسه احتياطيا بكل ملابساته وتفاصيله نقطة الالتقاء الواضحة بين ملفي الثقة والمحاكم العسكرية؛ لتصب في مفهوم العدالة وتحقيقها في المجتمع.
وبعيدا عن الكلام عن شخصية علاء سيف أو دوره بشكل مباشر في الثورة، والتي تمثل أحيانا كثيرة نقطة للجدل بدلا من الاتفاق بين المتفقين والمعارضين عبر التعليقات التي أتابعها على الصحف ومواقع التواصل الاجتماعية المختلفة، فإن التعميم سيكون أفضل باعتبار أن فكرة القانون تقوم بالأساس على عدم الشخصنة وخضوع الجميع له بشكل متساو. وبالتالي فإن كانت القضية هي رفض المحاكم العسكرية لمدنيين فإنها قضية عامة، علينا أن نحدد موقفنا منها اتفاقا أو اختلافا، يتساوى في هذا علاء سيف ويتساوى في هذا أي مواطن مصري أخر، حتى وإن كان متهم في جرائم بلطجة أو أية جرائم أخرى، لأن رفض الظلم ورفض الخروج عن القانون والدستور وحقوق الإنسان تعد قضايا عامة، لا يمكن أن نرفضها لشخص ونقبلها لشخص أخر، حتى لأن قبولنا لتطبيق انتقائي للمحاكم العسكرية ضد أي فرد سيكون دومًا بوابة لتطبيقه على أي أحد أخر يوما ما، تلك فقط نقطة علينا أن نتفق عليها حتى نتجاوز الخلاف القائم حول الأشخاص، وحتى لا يرتضي البعض بظلم قائم اليوم على أساس أنه بعيد عنهم، في حين أنه أقرب إليهم مما يظنون، وأن الجميع فى دائرة واحدة لن تفرق بين أحد لأنها بالفعل لا تفرق بين أحد عندما يمس الأمر مصالحها.
ومع الاتفاق على رفض المحاكمة أمام القضاء العسكري يمكن القول بأن موقف علاء سيف من رفض الإجابة عن الأسئلة الموجهة له، والتي دفعت إلى حبسه احتياطيا كما قيل أدخلنا في ساحة النقاش حول الثقة في المؤسسة المعنية بالتحقيق. ففى حين زادت الدعوات والتحركات لدعم موقف علاء ورفض موقف المجلس العسكري بوصفه السلطة الحاكمة والدعوة للإفراج عنه، فإن الردود القادمة في صورة تصريحات غير معرفة المصدر جاءت لتؤكد على أن الضغوط لن تؤدي لتغيير الموقف القائم، لأن علاء يحاكم بتهم جنائية وليس في إطار حرية الرأي والتعبير، مع التأكيد على أن كتابات علاء حول المجلس العسكري ليست جزءًا فيما يحدث، وليست جزءًا في التحقيقات أو التهم الموجهة له.
مرة أخرى كان يمكن للمجلس العسكري أن يوفر وقت مصر بعدم الدخول في هذا الجدل إن تم تحديد الأشياء بمسمياتها منذ البداية، وإن تم توجيه الملفات للجهات المعنية بالشفافية المطلوبة في دولة قانون منذ البداية. كان يمكن تجنب الكثير من القلق والجدل إن تم التعامل مع القضية بوصفها قضية مصيرية، تحدث في ظل حالة ثورية، تهدف لإحداث قطيعة بين مصر ما قبلها وما بعدها، وهو ما فشل المؤتمر الصحفي للمجلس العسكري وما تبعه من تحركات وتطورات في تأسيسه.
ولعل ما يمكن أن يفعله المجلس الأعلى -إن أراد استمرار وجود دور له في المرحلة الانتقالية، والسير مع مصر حتى إجراء الانتخابات، ووضع الدستور- هو أن يعود للفكرة الأساسية القاضية بوجود فارق بين محاولة التفسير والمحاسبة، وأن محاولته تقديم تفسيرات تسعى لتبرئة الجيش لن تكون فى صالح الجيش، وأن إصراره على تقديم المدنيين لمحاكم عسكرية لن يكون في صالح مصر وأمنها. وإن كانت ذريعة المجلس الأعلى أو القضاء العسكري أن القضية تخص الجيش وترتبط بسرقة أسلحة عسكرية واعتداء على عسكريين، فإن لسان حال مصر يقول إن رموز النظام المراد إسقاطه، والذين يتمتعون بمحاكمات مدنية تفوق فيما يتوفر بها من ظروف تقاضي ما قدموه لغيرهم من المتهمين عبر عقود، تقول بأنهم قد أهانوا مصر جيشًا وشعبًا، وأفسدو المؤسسات القائمة، بما فيها ما يخص الجيش أيضًا، وإن لسان حال البعض يقول إن الأولى أن تتم محاكمة هؤلاء أمام القضاء العسكري. ولكن،وكما ذكرت سابقا، ما نريده هو دولة القانون، وأن يحاكم الشخص أمام قاضيه الطبيعي مهما كانت تهمته، ومهما كان جرمه، وعلى المجلس العسكري أن يدرك أن مواقفه تضر مؤسسات متنوعة، بما فيها الجيش، وتضر قيم كبرى وفي قلبها العدالة والقانون.