ما زال شبح ماسبيرو مسيطرًا على المشهد المصرى على الرغم من عدم حضوره المباشر على أرض الواقع والتعامل الرسمى معه على أنه حدث وانقضى ويتم التعامل معه وفقا للطرق القانونية التى يفترض أن تأخذ وقتها، وهو ما يمثل فى مصر بوابة يتم من خلالها فعليا تجميد القضايا ووضعها فى ركن من المشهد حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة وتتوارى فى غياهب الذاكرة. ولكن لأن أحداث ماسبيرو تتجاوز فى دلالتها تلك الآلية المصرية الرسمية التقليدية فإنها تآبى أن تتوارى إلى ركن قصى، ولن يحدث لها أن تموت بتلك السهولة التى يفترضها القائمون على السلطة. وإن عبرت التعليقات الساخرة التى أطلقها المصريون حول خطاب المجلس العسكرى والإعلام المصرى بخصوص ماسبيرو عن شيء فهو أن الأساليب القديمة فى التعامل مع الشعب المصرى وقضاياه الكبرى لن تمر بنفس الطريقة التى مرت بها خلال عقود ماضية، وأن الشعب الذى يقلب فى ذاكرته بعد الثورة ويعيد اكتشاف أوراقه المدفونة فى هذا الركن الذى أفترض فيه أن يكون مقبرة لقضايا المصريين ومشكلاتهم، هذا الشعب نفسه لن يقبل بأن يعيد غلق المقبرة وإعادة الدفن وبالمجمل فإن الحقيقة ستبقى مطلوبة والمكاشفة ستبقى جزءا أساسيا من الثورة إن أردناها إصلاحا وبناءً. وعلى الرغم من ابتعادى المقصود عن الاقتراب من مساحة النقاش حول المؤتمر الصحفى للمجلس العسكرى بخصوص أحداث ماسبيرو، وتعامل الإعلام الرسمى مع حجم الأخطاء المهنية والمسئولية الوطنية له بعد الأحداث انتظارا للتعامل القانونى والمؤسسى، فإن شبح ماسبيرو يفرض العودة مرة أخرى لساحة ما زالت دماء الشهداء تغطيها وما زالت أرواحهم مع ألام ذويهم تطالب بالحقيقة والمكاشفة واستبدال تصريحات المصادر السرية والتكهنات من المصادر المقربة بتصريحات وبيانات رسمية لا تقوم على الحديث المطول والالتفاف حول الكلمات بقدر ما تعمل على تقديم بيان واضح حول المسئوليات والأدوار والمحاسبة والآليات التى من شأنها أن تؤكد أن هناك ثورة وهناك مجتمعا فى طريقه نحو دولة القانون والمحاسبة وليس فى مساره العكسى نحو مزيد من القمع والتسلط
كنت وما زلت منتمية لتلك الأصوات التى تتعرض للانتقاد الآن لأنها تقدر الجيش المصرى وتتمسك بدوره ومكانته وهو ما يدفعنى لتوضيح أن هذا الدعم والتقدير ينموان ويوجدان فى سياق محدد، هو أن المكانة مرتبطة بالدور والمسئولية، وأن مكانة الجيش لا تنسحب بالضرورة وبشكل آلى على المجلس العسكرى بما يمارسه من دور سياسى، وأن رصيد الجيش يختلف عن رصيد مفترض للمجلس العسكرى ولا يحق للمجلس السحب من رصيد الجيش تحت أى حال من الأحوال. مع التأكيد على أن الموقف الحالى مرتبط بالجيش كما هو فى الذهن المصرى وهى أمور قد تتغير بحكم التطورات وبحكم الدور الذى يلعبه الجيش على أرض الواقع، مع إدراك أن حدوث تغير سلبى حول رؤية الجيش سيكون بالنسبة لى شخصيا إحدى الخسائر التى لا أرغبها، ولكن ستبقى النقطة الأساسية ألا نخسر مصر كما نريدها دولة قانون ومؤسسات وحقوق وحريات.
وفى هذا الإطار فإن تعاملى مع ما يقوله المجلس العسكرى وما يقدمه من تصورات له مرجعية واحدة ونقطة انطلاق أساسية. أما المرجعية فهى مصر المطلوبة أو المستهدفة إن أردنا القول، وأما نقطة الانطلاق فهى حالة الثورة التى تمثل الإطار العام لما يحدث والسبب الأساسى وراء وجود المجلس الأعلى فى المشهد السياسى المصرى. ومع إدراك وجود الكثير من الاخطاء التى تشهدها الفترة الانتقالية فإن أحداث ماسبيرو بآلية التعامل معها تمثل واحدة من الاخطاء الكبرى لأنها تؤكد استمرار آليات النظام المراد إسقاطه فى التعامل مع التطورات القائمة، وعدم إدراك القائمين على القرار حقيقة وجود ثورة ووجود روح مختلفة فى الأجواء.
لم يدرك القائمون على القرار أن هناك تطلعات مختلفة بحكم الثورة، وهناك حقائق مختلفة على الأرض عليهم أن يدركوها لتأتى قرارتهم وتصرفاتهم متسقة مع ضرورات المرحلة فجاءت تحركاتهم مرتجلة ومتخبطة على طريقة النظام المراد إسقاطه، والأهم أنها جاءت متناقضة مع فكرة الثورة ومطالبها. وكما فعل النظام المراد إسقاطه عندما أصر على تضييع فرص الإصلاح واحدة تلو الأخرى يبدو المجلس العسكرى وحكومته مصرين على تضييع الفرص لإثبات وجود دور إيجابى فى دعم الثورة، ويبدوان مصرين على أن يسيرا الطريق مرة أخرى من بدايته على الرغم من أنهما يعرفان شكل النهاية المحتملة.
كان بإمكان نظام مبارك مرات أن ينجو من وضعه الحالى ولكنه ولحسن حظ مصر لم يقم بعمليات تجميل كافية للاستمرار، وكان وما زال بإمكان المجلس الأعلى أن يعيد رسم دوره وأن يساند التغيير للأفضل ولكنه يبدو لاعتبارات مختلفة بعيدا عن هذا المسار حتى الآن. أما ما يعيدنى لهذا النقاش فهو حالة الخلط القائمة فى التعامل مع ملف أحداث ماسبيرو سواء من الناحية السياسية أو الناحية الإعلامية. حالة الخلط التى تزيد الغضب وتزيد من خلط الأوراق فى المشهد المصرى والتى ظهرت واضحة فى عدة أحداث تالية مثل إيقاف يسرى فودة لبرنامجه واستدعاء علاء سيف للتحقيق معه والذى تطور لحبسه احتياطيا تاليا. فى الحالتين تم التعامل على أساس أنها حالات منفصلة وكأن تلك الأحداث تتم بمعزل عن وضع مصرى عام لتؤكد مرة أخرى غياب الإستراتيجية واستمرار آليات التعامل القائمة على فكرة الإدارة يوم بيوم وحالة بحالة. تناسى متخذو القرار فى مصر أن تلك الأحداث هى جزئيات فى مشهد أكبر، وأن التعامل الجزئى لن يحل أى شيء ما. لم يتم إدراك حقيقة وجود ثورة، وحقيقة أن كل ما يحدث هو جزء من كل وليس العكس ولنا فى هذا عودة..