قد يجد البعض أن هذا العنوان مستفز الآن، فنحن فى مرحلة الغضب الموجه نحو الجيش المصرى والطبيعى أن ننتقد الجيش ونصوب له سهام النقد ما دامت تلك هى ملامح المرحلة.. مرحلة أوصلت البعض لحد تشبيه الجيش المصرى بجيوش أخرى فى المنطقة توجه نيرانها تجاه مواطنيها، ولاستكمال ملامح التشابه تحدث البعض عن قتل عمد لمصريين على يد الجيش وإلقاء جثث القتلى فى مياه النيل وكأننا نشرب مياه النيل المصرى مخلوطة بدماء شهداء مصر. تلك الصورة للأسف تحمل تجاوزًا شديدًا فى النقد، واتجاهًا سلبيًا لا يحمل عوامل البناء لأنه يصل بنا لنتيجة واحدة وهى استحالة التعايش والحوار مع جيش يقتل أبناء وطنه، جيش - وفقًا لهم - تحول من عقيدته الوطنية حيث دوره حماية أرض وشعب لقتل وتهديد وحدة هذا الوطن الذى يفترض فيه حمايته، وإن كان هذا الجيش قد وصل لتلك المرحلة، وإن كان وصل لحد القتل العمد بتلك الوحشية، وباستخدام ما أسماه رجال المجلس العسكرى أنفسهم أموال الشعب ممثلة فى المدرعات العسكرية لقتل أبناء الشعب دافع الضرائب، فلا مجال للنقاش ونصبح أمام جريمة كبرى.، وإن كان هذا الجيش وصل لحد وضعنا فى مفارقة الحياة والموت، وأنا والآخر من أجل كراسى ستزول حتمًا بزوال وحدة الوطن وستصبح غير ذات قيمة، فإن هذا الجيش يصبح خارج سياق الوطنية ومحلاً للتساؤل والمحاسبة. ولأن هذا ما تعنيه عندى تلك السيولة فى التصريحات حول ما حدث فى أحداث ماسبيرو، ولأننا أمام مشهد يتحدث فيه الجميع وكأنهم يملكون الحقيقة، فإن العقل والرشادة تبدو مطلوبة لمعرفة معانى الكلمات المستخدمة وما ستصلنا إليه وما ستصل مصر إليه، وهنا علينا أن نسأل أنفسنا: من أين أتى جيش مصر؟ من هم مكونات الجيش المصرى؟ ما هو تاريخ الجيش المصرى؟ ما هو دور الجيش المصرى خلال أحداث الثورة وما هو التصور الممكن لمصر والثورة إن اختار الجيش بديلاً آخر من البداية؟
قد يقول البعض ردًا على تساؤلى الأخير، وكما يتكرر الآن بأن الجيش لا يمن علينا بقوله إنه حمى الثورة، وبأنه يقوم بعمله وفى هذا جزء من الحقيقة، ولكن الحقيقة تقتضى ألا نكتفى بإطلاق كلمات ومفاهيم كبرى وتعاريف عامة دون النظر لسياق الأحداث التاريخى والجغرافى، نحن نتحدث عن مصر وعن سياق مصرى وعربى وهذا أمر يجب النظر إليه بعمق وتفهم.
بداية فإن جيش مصر لم يكن يومًا ما وزارة الداخلية، وضابط الجيش لم يكن يومًا الباشا والبيه المنتمى لشريحة يتجنبها حتى الشرفاء من أبناء مصر تجنبًا للمشاكل، جيش مصر ظل عابرًا للطبقية والجغرافيا وكثير من معايير التصنيف الأخرى التى نمت بقوة داخل المجتمع المصرى خلال عقود طويلة، فحتى مع بعض المشاكل التى بدأ البعض يتحدث عنها للتشكيك فى صورة المؤسسة العسكرية يبقى الجيش "خط أحمر" لمكانته فى العقل الجمعى المصرى، لدوره الذى ظل إيجابيًا ومحل ثقة وتقدير خلال تاريخ مصر، لمكانه الذى يجعل كل بيت فى مصر مرتبط بالمؤسسة العسكرية بشكل أو آخر بحكم التجنيد الإجبارى. لتاريخه الذى ظل - رغم بعض الهزائم - ناصعًا براقًا على الأقل لدينا نحن شعب مصر، يبقى الجيش أحد الأشياء الكبرى التى توحد حولها الشعب المصرى حتى أيام الثورة حين كنا نطالب وندعو ونصلى بأن يتدخل الجيش وأن يكون تدخله كما نتوقعه.
لم نتخيل أن يكون الجيش ضد أبناء مصر فى لحظة حاسمة، لم نخش أن يهجم الجيش بدبابات ومدافع وطائرات على المتظاهرين، كنا نتساءل: لماذا لا يدخل الجيش؟ لماذا لا ينزل الجيش ويتولى الأمور؟ وعندما نزل الجيش كنا نقول لماذا لا يتدخل ويكتفى بالمشاهدة رغم ما عبر عنه هذا التواجد من إحساس ما بالأمان المرتبط بوجود "ضهر وسند" بالتعبير المصرى، بالمجمل كنا نثق فى تلك اللحظة بأن الجيش مصرى وعظيم ومعنا "إيد واحدة" فى بناء مصر وحمايتها، كنا نثق أنه عندما تأتى اللحظة الحاسمة سيكون الجيش معنا ولن يكتفى بالمشاهدة. وعندما نام المتظاهرون أمام الدبابات لم تكن تمثل تهديد كمدرعة الشرطة فى هذا الوقت بل كانت جزءً من معادلة الأحساس بالأمان التى أوجدها الميدان، كانت اللحظة تعبيرًا عن رؤية المصريين لجيشهم ودوره وتاريخه، كانت تعبير ًاعن مكانة لم تتغير وظلت أحد ثوابت الشعب المصرى عبر العصور، لم تغيرها الهزائم أو بعض ملامح الضعف التى ارتبطت فى العقل الجمعى بضعف سياسى وليس ضعف عسكرى، وظل الجيش حالة خاصة فى مصر لم تكن الثورة إلا تأكيدًا لها.
مع تصاعد بعض الأصوات ضد الجيش بدأت ملامح الخطورة فى المشهد، فمن يتحدث عن أنه جيش مبارك، أو وزير دفاع مبارك، أو أن الجيش لم يطلب منه تولى الأمر.. دخلنا فى ساحة جدل دائرى ليس له معنى واستنزف الكثير من وقت مصر، وبدلا من الاستعداد للانتخابات ببرامج ورؤى حزبية واضحة، وإدارة حوار مجتمعى حول القضايا ذات الأهمية، أصبح الجدل حول المجلس العسكرى مقابل المجلس المدنى، وأصبح الجيش يعامل من قبل البعض بوصفه أصل الشرور الذى لا يمكن أن تنصلح أحوال مصر فى وجوده.
وهنا أتوقف مرة أخرى: هل هو أسلوب الفرعون؟ هل نهدم مبارك ثم نتحول للمجلس العسكرى ومن يأتى بعده؟! وإن لم يكن الجيش فمن يمكن أن يكون مصدر إجماع وحماية لمصر فى تلك اللحظة الحاسمة، لا أقول إن الجيش قام بأى نوع من المن على مصر ولكنه قام بما تطلبته مصر وبما كنا نتوقعه على الأقل فيما يخص تصورى عن الجيش المصرى.
لم أتخيل أن تصل الأمور بأحد بمساحة شائكة لمصر لتحقيق مصالح جزئية ومؤقتة وهامشية عبر تحول أسهم النقد للجيش، ولا أن تصل لحد تمثيل الجيش كقاتل وشريك، وهو ما يجعلنا نتساءل: هل اتخذ الجيش خطًا مماثلاً لجيوش أخرى فى المنطقة اختارت بشكل واضح أن يكون النظام الحاكم بالنسبة لها هو الدولة؟ ألم يكن هذا احتمال إن كان الجيش يرى فى الثورة أو التغيير تهديدًا لمصالحه بعد مبارك كما فعل البعض وأن يسعى للبقاء بعيدًا عن المشهد أو يتدخل دعمًا للنظام؟
لا أقول إن المجلس العسكرى لم يخطئ أخطاء عديدة فى إدارته للمرحلة الانتقالية بداية من إعلانه أنه زاهد فى السلطة ومتعجل للرحيل بما فتح بواية كبرى للتصارع السياسى بكل الآليات وأضر المرحلة الانتقالية بأكثر مما أفادها، وصولاً للإبقاء على حكومة ضعيفة لا تليق بمرحلة التحول الانتقالى. ولكن يبقى من المهم أن نميز بين المجلس العسكرى كمجلس طبيعته عسكرية ولكن يقوم بدور سياسى، وبين الجيش كجيش وطنى عسكرى عابر لكل تركيبة الشعب المصرى.
من أكثر ما يقلقنى أن نخسر فى تلك المرحلة تاريخ ومكانة عميقة للقوات المسلحة المصرية، مكانة تمكنها أن تكون حامى الديمقراطية كدور مهم انتقاليًا، وحامية الوطن كما كانت دومًا، وبهذا المعنى وحده أرى أن الجيش خط أحمر ومكانة كبرى كانت ولا تزال مصدر فخر وأرجو أن تبقى.
على المجلس العسكرى أن يكون واعيًا فقط بتلك المعادلة وعلى الجميع أن يكون مدركًا لها، ولعل أحداث ماسبيرو وغيرها من التصرفات هنا وهناك تؤكد أن إعادة دور الشرطة تحت رقابة وبقوانين حاسمة أمر مهم لحماية الجيش وعدم إشراكه فى كل القضايا لأن بعضها يمكن أن يجر الجيش لمساحات تضر بمكانته وسمعته ودوره كمراقب وحام.
على الجيش أن يكون كما كان أيام الثورة حام ومراقب عبر مسافة، مسافة يجب أن تمكنه من الوجود القادر على حماية مصر والمصريين وحماية دوره ومكانته لا أن تقوده ليصبح مستهدفًا بوصفه فرعونًا جديدًا.
على الجميع فى تلك المرحلة إدراك قيمة الكلمة وأهمية الخطوط الحمراء التى تمثل أسس تكونت عبر تاريخ طويل لأن وجودها قيمة إيجابية وعامل حماية لمصر الحاضر والمستقبل كما كانت دومًا.