تمر اليوم، الأربعاء، الذكرى 94 لوعد " بُلفور" الذى لا تزال الأمة العربية والفلسطينية تعانى ويلاته حتى الآن. هذا الوعد الذى اغتصبت به فلسطين، و" أَعطى بمقتضاه من لا يملك من لا يستحق"، حين أرسل وزير الخارجية البريطانية المشئوم آرثر جيمس بلفور رسالة إلى اللورد وولتر روتشيلد، جاء نصها كالتالى: "إن حكومة صاحب الجلالة ترى بعين العطف تأسيس بيت قومى للشعب اليهودى فى فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهَم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة فى فلسطين، أو الحقوق والوضع السياسى التى يتمتع بها اليهود فى أى بلد آخر". ولا تمر الذكرى السنوية لهذا الوعد هذه المرة فى ظروف عادية على الأمة العربية، ولكنها تأتى فى ظل محاولات حثيثة لنيل فلسطين حقها المسلوب كدولة، والذى بدأت مسيرته بنيل عضوية كاملة فى "اليونسكو"، وفى انتظار نيل عضويتها أيضا فى مجلس الأمن يوم الجمعة بعد المقبل. ولا يمكن أن تمر هذه الذكرى دون أن نتأمل موقف القوى العظمى من فلسطين، والذى لم يختلف كثيراً، فبريطانيا التى باعت فلسطين في الماضي تنوب عنها أمريكا الآن، التى منعت مؤخرا المعونة عن فلسطين وعن " اليونسكو"، والتي تقف بقوة فى وجه المحاولات العربية في هذا الصدد باستخدام الفيتو، هو إذن نفس قناع " بلفور" يظهر مرة أخرى، وإن كان يلبسه اليوم وجه أسمر هو باراك أوباما، ولكن موقف القوى الاستعمارية لا يختلف كثيرا. آخر هذه التصريحات الأمريكية المستفزة، صرحت بها المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند، قائلة إن الولاياتالمتحدة ستقطع المساعدات التى تقدمها عن أى منظمة أممية فى حال اعترافها بالدولة الفلسطينية، على غرار ما فعلت منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( اليونسكو). وقالت نولاند، فى تصريحات لراديو " سوا" الأمريكى اليوم الأربعاء، "إن قرار الولاياتالمتحدة قطع التمويل عن اليونسكو، جاء بسبب القوانين الأمريكية التى تجبر الحكومة على قطع التمويل فى هذه الحالات"، مؤكدة استعداد واشنطن لتكرار المواقف ذاتها فى أى حالات أخرى. وأضافت " لقد أوضحنا بشكل كامل للفلسطينيين، ونحن نوضح لشركائنا حول العالم أننا نرفض هذا الجهد فى أى من منظمات الأممالمتحدة الأخرى، ونحن مستعدون لتكرار الموقف ذاته إذا تكرر الفعل فى أى مكان آخر"، مجددة تأكيد موقف واشنطن المؤيد لعملية السلام فى الشرق الأوسط، ومشيرة إلى أن الخلاف يكمن فى وجهات النظر حول كيفية مساعدة الفلسطينيين. إذن "اللولب·· يلف مرة أخرى!"هكذا وصف المفكر الفلسطينى الراحل إدوارد سعيد والذى مرت ذكرى وفاته أمس، موقف الطغاة العالميين من فلسطين، فالتاريخ كما يصفه فى أحد مقالاته "يعيد نفسه بظلمه وجوره وطغيانه" ضد بلاده المغتصبة. موقف أمريكا المعادى للقضية الفلسطينية، والمناصر لكل ما هو إسرائيلى يعرض له ويحلله إدوارد سعيد فى مقال له، ووفق رؤيته " فإن الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين لمدة خمسة وثلاثين عاما قد أُزيحَ ببساطة غريبة من الإعلام الأمريكى وذهن الحكومة الأمريكية"، ويعلق سعيد على ذلك بأن السبب فيه" القوة الإعلامية التى يلعبها الإسرائيليون فى الإعلام الأمريكى، فالمتحدثون الرسميون منهم متمرسون على الكذب والنفاق. ويسوق سعيد مثالا على ذلك، برد واحد من هؤلاء المتحدثين الرسميين على سؤال صحفى حول تدمير منزل برفح، فيّدعى أنه غير مأهول بالسكان، بل كانت تسكنه أعشاش إرهابية تقتل المواطنين الإسرائيليين الأبرياء! بينما تُعرض فى نفس وقت تصريحه هذا، صور المئات من المشردين الفلسطينيين بعد هذا التفجير، لكنها ظهرت عابرة على الشاشات، فذهبت أدراج الرياح من ذاكرة ووعى الناس". ويُرجع المفكر الكبير الراحل أيضا موقف القوى الأمريكية الصهيونية إلى موقف العرب، فالأخير "موقف عاجز من حكوماتنا لمدة خمسين عاما"، فهو موقف الصمت المخزى أمام سياسات أمريكا وإسرائيل، وبالتالى فهو "عبودية ذليلة"· ويعطينا سعيد المبرر العربى المخزى لهذا الموقف العربى العام من النضال الفلسطينى، حسب ترجمة وعرض الكاتب ملاك ناصر، فهو مبرر منحصر فى "الاستمرار فى الفساد وحلول الوسط بين الجيد والردىء والظالم"، هكذا يعبر تحديدا إدوارد سعيد، ويتعجب من تلك الصفقة التى عقدها العرب مع أمريكا: بين تعضيد تطلعاتهم الضيقة، وإمساك أمريكا عن الوفاء بها! أخيرا، فإن النضال الفلسطينى السلمى هو اتجاه جديد نحو مقاومة مبتكرة خلاقّة من نوع جديد، بشر به سعيد، فهو يرى أن المقاومة الفلسطينية لابد أن تأتى من خلف الطرق والأساليب العتيقة البالية التى كانت تُمارس لتحدى إسرائيل، والتى لم تساهم كثيرا فى تقدم المفاهيم الفلسطينية تجاه الموقف العام.