مرة أخرى وأنا أكتب هذا المقال يجد الناخبون الكويتيون، أو بعضهم غير المقاطع للانتخابات، أنفسهم أمام استحقاق برلماني آخر بالذهاب إلى صناديق الاقتراع لانتخاب برلمانهم السادس، في أقل من سبعة أعوام في مشهد بات مألوفاً ومزعجاً ومحبطاً. وفي كل مرة تتعالى الأصوات وتنخفض نسبة المشاركة للأكثر من 400 ألف ناخب وناخبة الذين يجدون أنفسهم اليوم في مواجهة صناديق الاقتراع للمرة الثانية خلال هذا العام. وبسبب تكرار عدد المرات التي اقترعوا فيها، كان الناخبون الكويتيون قد انتخبوا برلمانهم الرابع عشر في الثاني من فبراير 2012، وفازت فيه قوى المعارضة من إسلاميين ونواب قبائل بأغلبية مريحة تجاوزت الثلثين. وعندما سألت طلبتي في الجامعة عن رقم البرلمان الذي سينتخبه الناخبون غير المقاطعين، تلعثم معظمهم ولم يعرف الجواب الصحيح. وكثير من الكويتيين ضاقوا ذرعاً بالعمل السياسي، وبالصراع الدائم والمحبط بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، بسبب استمرار الحالة الكويتية المثخنة بالصراع والمواجهات واستقالات الحكومات وحل البرلمان المنتخب. لقد بدت الكويت في هذه الانتخابات مختلفة عما عهدناه عنها في عرسها الديمقراطي. وللمزيد من التفاصيل حول المشهد السياسي المضطرب والمواجهات الدائمة راجع سلسلة المقالات في «الاتحاد» عن الحالة الكويتية التي سطرتها منذ مطلع هذا العام مثل «الحالة الكويتية الصعبة وسط الربيع العربي» و«ما يجري في الكويت ليس ربيعاً عربياً» و«حراك كويتي وليس عربياً». وبالفعل كما شرحت في العديد من المقالات والكتابات والتعليقات، فإن ما يجري في الكويت غير متصل بموجة التغيير التي شهدتها بعض الجمهوريات العربية خلال العامين الماضيين، والتي أرى أن من الأصوب أن تسمى «ربيع بعض الجمهوريات العربية». والأسباب في ذلك عديدة، ولعل أبرزها أن الأنظمة الوراثية أثبتت أنها الأقدر والأنجح في التعامل مع مطالب شعوبها والاستجابة لتطلعاتها. فقد فتحت المجال للحريات وقدمت إصلاحات متدرجة. كما أن الأنظمة في دول مجلس التعاون الخليجي خاصة تحظى بشرعية تقليدية، وعلاقة الحاكم مع المحكوم متجذرة وتاريخية، والثقافة والموروث الإسلامي والقبلي يجعل العلاقة بين الشعوب والأسر الحاكمة أكثر التصاقاً واندماجاً ورسوخاً. وهناك الإصلاحات التي تم تقديمها وكذلك المستوى المعيشي المرتفع لمعظم المواطنين في دول مجلس التعاون الخليجي، بالإضافة إلى حرية النشاط الاقتصادي وعدم دفع ضرائب. وتبرز الكويت بتجربتها الرائدة والعريقة كمثال ونموذج يُحتذى به. فقد احتفلت قبل أقل من شهر بالذكرى الخمسين لإقرار واعتماد أول دستور مكتوب في الكويت والمنطقة. وستحتفل الكويت في الشهر القادم أيضاً بالذكرى الخمسين لانتخاب أول برلمان منتخب في تاريخها وتاريخ المنطقة كذلك. أما أسباب الاختلاف والمطالبة لأول مرة بمقاطعة انتخابات مجلس الأمة الخامس عشر الجديد، إذا احتسب استحقاق 2012 في التسلسل العددي لعدد مجالس الأمة الكويتية، والرقم 14 إذا اعتمدنا أن المحكمة الدستورية قد أبطلت في يونيو 2012 مجلس الأمة الرابع عشر الذي انتخب في الثاني من فبراير 2012. وبسبب هذا التباين يلتبس الأمر على الكويتيين في معرفة أي مجلس أمة انتخبوا في الأول من ديسمبر 2012 بعد 10 أشهر من انتخاب مجلس الأمة السابق! وهكذا بات الناخبون الكويتيون ينتخبون مجلسي أمة في عام واحد. وقد تفجرت الأزمة الحالية التي تأتي في سياق سلسلة أزمات عديدة ومعقدة بسبب غياب الأغلبية المريحة لأي من السلطتين، وعندما أصدرت المحكمة الدستورية في يونيو 2012 حكماً غير مسبوق، يقضي بعدم دستورية الإجراءات التي رافقت حل مجلس الأمة السابق (الثالث عشر)، وبالتالي بطلان مجلس الأمة الرابع عشر، الذي سيطرت فيه المعارضة على أكثر من ثلثي المقاعد وتحولت إلى أغلبية بأعداد كبيرة تشمل ألوان الطيف بين الإسلاميين والقبليين والمستقلين. وتمت إعادة مجلس الأمة الثالث عشر بمرسوم. والمفاجأة الكبيرة أن مجلس الأمة الثالث عشر الذي انتخب في عام 2009، اتهم فيه حوالي ثلاثة عشر نائباً موالياً للحكومة بتلقي أموال فيما عرف بفضيحة «الإيداعات» من الحكومة للتصويت مع مشاريع ضد الاستجوابات التي وجهت لوزراء في الحكومة السابقة. وبسبب مقاطعة أغلبية نواب البرلمان الذي أعيد للحياة، جلسات البرلمان، اضطر الأمير لحل مجلس الأمة الثالث عشر للمرة الثانية في أكتوبر الماضي، والدعوة لانتخابات مبكرة حسب المادة 107 من الدستور خلال شهرين من تاريخ الحل بسبب مقاطعة المعارضة ،التي فقدت أغلبيتها بعد إبطال المجلس السابق، لجلسات المجلس وعدم اكتمال النصاب. وقد دعت المعارضة إلى مقاطعة انتخابات الثاني من ديسمبر بسبب إصدار سمو الأمير مرسوم ضرورة لقانون الانتخاب قلص فيه حق الناخب باختيار مرشح واحد في دائرته بدلاً من اختيار أربعة مرشحين كما كان عليه الحال منذ اعتماد الدوائر الانتخابية الخمسة، وأربعة مرشحين لكل ناخب منذ عام 2006. وتبرير سمو الأمير للتعديل هو أنه من أجل «حماية الوحدة الوطنية». ولكن المعارضة ترى أن ذلك التعديل ليس من مراسيم الضرورة ويجب أن تجرى الانتخابات وفق النظام المتبع منذ عام 2006 بخمس دوائر وأربعة مرشحين يختارهم كل ناخب. وأن تقليص خيارات الناخب من أربعة مرشحين إلى مرشح واحد سيأتي ببرلمان مدجن وموالٍ للحكومة، ويقضي على التحالفات، وبالتالي يقلص بشكل كبير أعداد نواب المعارضة في البرلمان القادم. ولذلك خرجت المعارضة بمظاهرات واعتصام «كرامة وطن» في ثلاث مظاهرات غير مسبوقة في حجمها ومطالباتها لإقناع القيادة الكويتية بالتراجع عن مرسوم الضرورة، وأن يُترك للمجلس القادم النظر في تعديل قانون الانتخابات. ولهذه الأسباب يبدو المشهد السياسي الكويتي معقداً وشائكاً في نظر الكويتيين وكذلك من هو معجب ومتابع للتجربة الكويتية الرائدة. والانقسام الحاد بين معظم القوى السياسية التي تقاطع الانتخاب وبين الحكومة والقيادة الكويتية لن يتم حله بالانتخابات. وغياب المعارضة لأول مرة عن المشاركة والحضور في البرلمان الكويتي يعني أن الكويت تمر بأزمة سياسية. وأن قوى المعارضة الكويتية لن تكون لأول مرة ممثلة في البرلمان. وكلا الطرفين حشد ودفع مناصريه في اتجاه ما يراه صواباً. فالحكومة جندت جميع مؤسساتها للدفع بمشاركة كبيرة لتثبت أن الإجراءات ومرسوم الضرورة يحظى بأغلبية وقبول شعبي. والمعارضة خرجت في مظاهرة عشية الاقتراع تعد كبيرة بالحجم الكويتي لتؤكد على مقاطعة الانتخاب، وأن نسبة الاقتراع المنخفضة التي قد لا تصل إلى 50 في المئة هي استفتاء شعبي على عدم القبول الشعبي بخفض حق الناخب باختيار مرشحيه من أربعة إلى واحد. ولكن المعارضة اليوم لا تملك أي حضور في البرلمان بسبب المقاطعة التي هي سلاح ذو حدين. وذلك يحرمها بالتالي من أن تؤثر في النقاشات ومشاريع القوانين التي سيتم إقرارها في البرلمان القادم. وفي المجمل، تبدو الكويت واستقرارها وتنميتها، هي من يدفع الثمن. وهذا الاستقطاب يزيد من تهديد استقرار الكويت السياسي والأمني ويزيد من الشرخ والانقسامات في مجتمع صغير ينشد الأمن والاستقرار والتقدم والتطور.. وهو متململ من المواجهات والأزمات المستمرة... ولنا عودة إن شاء الله. ********************************* ***** (نقلا عن الاتحاد - الامارات)