شَطَرَ الإعلان الدستورى الشعب المصرى نصفين، ومادام الانقسام تم بالسكين فكل نصف منهما ينزف دمًا ويتأوه ألمًا، ولا يكاد يستطيع أن يُنجز شيئًا لا في السياسة ولا الاقتصاد ولا التنمية ولا الخدمات، كلا النصفين سيظل مُعطلًا نازفًا حتى حين، وتمزق الدول حدوديًا يسبقه دومًا تمزق نفسي وروحي، وتمزقها جغرافيًا يسبقه دومًا التمزق الإنساني والديموجرافى.. واليوم تتمزق مصر إنسانيًا، فالإسلاميون في ناحية، وأنصار الدولة المدنية في ناحية، والمسيحيون في ناحية، وأهل سيناء في ناحية، وبعض أهل النوبة يُجهزون اليوم شكلًا لعلم دولتهم المستقلة.. هذا التمزق الإنساني والنفسي والروحى هو الخطر الأكبر على مصر. وقد جاء الإعلان الدستورى الجديد ليضع حالة فريدة من الانقسام السياسي والروحي والإنساني والديموجرافي بين أبناء الشعب المصرى. وأخشى أن يتحول هذا الانقسام في النفوس والقلوب إلي انقسام في الحدود وفي الجغرافيا بعد سنوات طويلة، وعلينا ألا نستهين بقطرات الماء إذا تواصل سقوطها على الحجر الأصم، فقد تؤدى إلي تفتيته وتمزيقه في يومٍ من الأيام.. قد يقول البعض: على مَن تقع المسئولية في ذلك؟ أليست تقع على المعارضة في الأصل؟ أليست تقع على بعض القضاة الذين لعبوا السياسة وهم يرتدون ثوب القضاء ليحولوا السياسي القابل للأخذ والرد إلي قضاءٍ وحكم واجب النفاذ دون مناقشة يُعطل المؤسسات المنتخبة.. ويقول البعض: أليس يقع ذلك على الرئيس الذي ينبغي عليه توحيد الصفوف ولمْ الشمل اقتداءً بالرسول (صلى الله عليه وسلم)، الذى وَحّد أهل المدينة جميعًا فور بناء دولته وآخَى بين المهاجرين والأنصار وأطلَق وثيقة المدينة والذي يعد بمثابة الدستور الذى يسوي بين الجميع ويعطيهم جميعًا بمن فيهم يهود المدينة حق المواطنة والمساواة.. والحقيقة التى وصلت إليها بعد خبرتى السياسية الطويلة أن الحاكم الجيد يصنع معارضة جيدة، وأن المعارضة المخلصة تصنع حاكمًا متجردًا لمصلحة وطنه، وأن الحاكم العادل يصنع قضاءً عادلًا، وأن القضاء العادل يصنع حاكمًا واقفًا عند حدود الشريعة والقانون، فكلاهما يصنع الآخر ويُغذى صلاحه أو فساده.. لقد تخطت مصر اليوم مرحلة الاستقطاب الحاد والتكفير السياسي والديني لتدخل مرحلة العنف المجتمعي من اعتداء على مقار "الحرية والعدالة" وحرق اعتصام أسرة الدكتور عمر عبدالرحمن وحرق مقر "الجزيرة".. وأخاف أن تدخل مصر مرحلة الاغتيالات السياسية كما حدث في الخمسينيات، وأخشى أن يتحول التمزق الإنساني والديموجرافي إلي التمزق الجغرافى.. فهل نُطفئ الحريق قبل أن نندم جميعًا؟ أم سيظل كل طرف مُصرًا على موقفه هذا في الإعلان وذاك في الميدان حتى تضيع مصر؟