عندما قامت ثورة 25 يناير، ابهرت صورة المصريين المتلاحمين في جسد واحد، رغم اختلافات انتماءاتهم واديانهم وافكارهم وأيديولوجياتهم، العالم اجمع. صورة صفق لها الجميع وسوف تضل عالقة في اذهان التاريخ لما حملته من سلمية وسمو الرسالة ووحدة الكلمة والاجماع على نفس الهدف: الثورة على الظلم والفساد. وفي ايام مثل ايامنا هذه شوهت الصورة، وعمت الفوضى، وتغيرت ملامح الميادين التي شهدت ارقى ثورة في القرن، وانقسم المصريون الى معسكرين: معسكر ال "مع" ومعسكر ال "ضد"، وانقسم الشارع المصري الى اخوان / خرفان، وفلول / خونة كما يحلو للبعض تسميتهم.. وبين هذا وذاك ضاعت شخصية وروح المصري الذي جمعه بأخيه، في الماضي، القريب نفس الهم ونفس الظلم ونفس الطغيان ونفس الحياة الكئيبة التي خرج متحديا خوفه واختلافه ليثور وينقلب عليها.. فماذا تغير في شخصية المواطن المصري؟ ومن المسؤول عن هذا التقسيم الخطير الذي يشهده الشارع المصري؟
لم يكن الاعلان الدستوري الاخير الا القطرة التي افاضت الكأس، فمنذ تولي المجلس العسكري المرحلة الانتقالية في مصر بدأ الشارع المصري ينقسم على نفسه بسبب الصراع الشرس على السلطة، وبسبب افتقاد التنافس الشريف المبني على الاقناع والموضوعية.. فكل طرف صنع من الاخر عدوا يريد الاستفراد بالوطن وتطويعه لما يخدم فقط اجندته.. وهكذا صار الشعب منقسما بين هذا اخوان، وهذا متطرف، وهذا فلول النظام السابق، وهذا خائن، وهذا مسيحي وهذا ثائر وتحول مجموع الشباب المتظاهرين في الميدان عند البعض مجرد مراهقين.. وبدأ الوطن يضيع بين هذا وذاك.
حدّة هذه الانقسامات تفاقمت مع اصدار الاعلان الدستوري، الغير دستوري، والذي يتم شحن فئة من الشعب المواليين لجماعة الاخوان من اجل اعطائه الصبغة الشعبية وبالتالي فرضه بالقوة تحت شعار "نحن الاغلبية والميدان بيننا". مع العلم انني لا افهم شخصيا الغرض من وراء تظاهر المؤيدين للإعلان الدستوري اذا كان التظاهر اصلا حق للمعارضين لينقلوا موقفهم ويقولوا كلمتهم، ام أن الموضوع اصبح فعلا حلبة مصارعة كما تردد بعض عناصر الجماعة المدسوسة في الشبكات والمواقع الاجتماعية والتي تريد بذلك اما تخويف وترهيب الشعب، المطالب بحقه في بناء دولة مبنية على اسس ديمقراطية وشرعية قانونية، او فعلا تريدها معركة شعبية وان كلف الامر ان تحرق البلد او ان تسقى الميادين بدم المصري الذي لم ترحمه حتى الموت من تصنيفه هذا اخواني وهذا من التيار المعارض، لان مجرد التصنيف يلقي التهمة على الطرف الاخر.
إن غياب الثقافة الديمقراطية، وتغييب العقل الذي يؤدي الى الاستقطاب الحاد، وتسخير الديني لما هو سياسي، وانتشار ثقافة التكفير ومن قبلهم تغليب المصالح السياسية الضيقة على مصلحة الوطن من ناحية، والصراع الشرس بين انصار الدولة المدنية وانصار الدولة الدينية، من ناحية اخرى، كلها عوامل تؤدي الى نهاية واحدة: تقسيم الوطن.
نعم، ان مصر اليوم قاب قوسين او ادنى من الانقسام، والشعب الذي راهن على الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية يجد نفسه اليوم في معركة دموية مع اخيه المصري لمجرد الاختلاف في الرأي والقناعات او الاختلاف في الانتماء والتوجه السياسي. وان كانت هذه المعركة في الميادين هي البارزة في المشهد السياسي اليوم، فهي ليست الوحيدة، وهذا ما لا ينتبه له الكثير، فهناك خطر تقسيم اخر يحدق من سيناء، وهناك اهل النوبة الذين يثيرون قضية التقسيم ايضا، دون ان ننسى التقسيم الطائفي والذي يلقي بمخاطره في كل مناسبة. ومع ذلك لا يزال النظام في مصر عاجزا عن رؤية هذه المخاطر، هذا اذا كان واعيا لها من الاساس.
مصر ليست حلبة مصارعة لينتهي الامر بالضربة القاضية من خلال الاعلان الدستوري كما يروج عناصر الاخوان.. وما ألت إليه الامور اليوم من حرب شوارع وبوادر حرب اهلية وحده النظام يتحمل مسؤوليتها ويجب محاسبته عليها. سقط الرئيس المصري في المحظور عندما تعدى على الشرعية الدستورية، وعندما تحدى السلطة القضائية، وايضا عندما اعلن بخروجه الى الاتحادية انحيازه الى فئة من الشعب دون اخرى، وان حاول ان يصحح او يشرح موقفه من خلال حواره الاخير، فذلك لن يبرر هذه الغلطة التي وقع فيها، والتي اشعرت نصف الشعب ان رئيس مصر ليس رئيسا لكل المصريين.
من هنا يجب اعادة النظر في مجموعة من المفاهيم واولها ان القانون وجد لتأمين مصالح الشعب، وليس لتكريس دولة الديكتاتور. وان الرئيس انتخب لخدمة كافة المواطنين وليس لخدمة فئة او جماعة منهم.. والمهم أن دوره الاساسي هو توحيد المواطنين وجمعهم حول كلمة واحدة ومشروع واحد.. وليس تقسيمهم وزرع الحقد والكره في قلوبهم عن طريق اتخاذ قرارات وطرحها للشارع يبث فيها، وبذلك اعلانها حربا بين المواطنين تنتهي بغالب ومغلوب، والشعب فيه من الجهل ما يكفيه.
انها ليست معركة ولا حلبة مصارعة.. انه وطن ذلك الذي يتمزق داخليا دون ان يكترث مسؤول بجمع اشلائه بقرار حكيم ينهي هذه المهزلة السياسية والتشتت المجتمعي الذي يؤكد مرة اخرى ان الانتقال الديمقراطي في مصر لن يكون يسيرا.
فمتى نفكر في مصلحة هذا الوطن الذي يجب على الكل العمل على الحفاظ على وحدته قبل ان يأتي يوم ونبكي جميعا على خرابه؟