ليس افتتاناً بالغرب ولا بسياساتهم العرجاء فى كثير من الأحيان تجاه قضايا الشرق الأوسط .. لكنه افتتان بتمسكهم بالقيم الاجتماعية وعلى رأسها العدالة والمساواة واتاحة الفرصة للكفاءات المتميزة، وتنحية النعرات الطائفية جانباً عندما يتعلق الأمر بمصلحة الوطن، فهم لم يصروا على أن يكون ابن الوزير وزيراً ولا ابن القاضى قاضياً ولا ابن اللواء ضابطاً، ولم يضعوا شروطاً مجحفة تتطلب حصول الأب والأم على شهادات عليا قبل الموافقة على تولي أى وظيفة أو منصب قيادى فى الدولة . والحكاية باختصار هى حكاية نجاح وفوز مستحق حققه "صديق خان" المسلم من أصل باكستانى على منافسه المليونير اليهودى "زاك جولد سميث" مرشح حزب المحافظين فى الانتخابات البلدية لبريطانيا واسكتلندا وويلز، ليصبح المسلم الأول فى أوربا الذى يصل لهذا المنصب بعد أن واجه حملات دعائية شرسة ومشككة اتهمته بالتطرف الإسلامي .. نجح ابن سائق الحافلة ذى الخمسة وأربعين عاماً فى الوصول لمنصب عمدة لندن البالغ عددها أكثر من 8 ملايين نسمة بينهم مليون مسلم، ليحصل على راتب 143 ألف جنيه إسترليني هو نفس راتب رئيس الوزراء البريطانى ، وليشكل فوزه لحظة سياسية فارقة فى تاريخ بريطانيا تنهى فترة من الاضطهاد والخوف لبعض الجاليات المسلمة بسبب ارتباط الاسلام فى الغرب فى كثير من الأحيان بالإرهاب .. وليدلل هذا الفوز على حرية الناخب البريطانى ووعيه وعلى ديمقراطية حقيقية لا تلتفت للديانة أو المعتقدات وإنما تلتفت فقط للكفاءات. لقد استطاع صديق خان أن يتغلب على عقبات لو واجهت إحداها أى مواطن مصرى لفشل فى الحصول على منصب مدير عام وليس عمدة لأعرق عاصمة فى العالم، فهو نجل مهاجر باكستانى فقير إلا أنه عاش فى مجتمع وفر له حق المواطنة الكاملة، وهو مسلم ودينه لا يمثل دين الأغلبية فى بريطانيا لكنه يعيش فى بيئة متسامحة تعترف بحق الآخر فى اختيار ديانته واختلافها عن الغالبية العظمى للشعب، وهو إبن سائق حافلة، ووالدته كانت تعمل فى حياكة الملابس لكنه يعيش فى مجتمع يعلى من قيمة العمل ويرفض تصنيف الأشخاص بناء على وظيفتهم أو وظيفة الوالدين ومدى رقيها أو تدنيها طبقاً للتصنيفات العربية. وفى مصر هاجت الدنيا وماجت عقب تصريحات وزير العدل الأسبق القاضي محفوظ صابر بأن ابن عامل النظافة لن يصبح قاضيًا، لأن القاضي لا بد أن يكون قد نشأ في وسط مناسب لهذا العمل وتصدر "هاشتاج" على تويتر يطالب بإقالة الوزير .. وأقيل الوزير بالفعل لكن هل أقيلت معه تلك الأفكار العنصرية البغيضة، بالطبع لا .. فقد جاء بعده الوزير احمد الزند الذى وصف تعيين أبناء القضاة فى النيابة العامة دون الالتفات لدرجاتهم ب "الزحف المقدس" وهو ما رفضه بعض كبار رجال القانون فى مصر معتبرين أن التمادى فى تعيين أبناء القضاة يعمل على ضعف منظومة القضاء المصرى لاعتماده على المحسوبية وليس الكفاءة فى التعيين، وخرج الزند من الحكومة دون أن نعلم هل خرجت معه فكرته العنصرية المسماة ب "الزحف المقدس" التى حرمت الكثير من الكفاءات من الحصول على فرص عمل مناسبة لإمكانياتهم وتميزهم وتفوقهم أم لا، ولنقيس على ذلك مؤسسات عديدة فى الدولة ما زالت الواسطة والمحسوبية والقرابة هى العنصر الأبرز فى اختيار قياداتها وموظفيها. ولا أخفى عليكم سراً إذا قلت أن الفرق بيننا فى معظم الدول العربية .. وبينهم فى دول أوربا والعالم المتقدم أننا ما زلنا نعتمد فى اختياراتنا للمناصب العليا والقيادية على أهل الثقة والولاء المطلق الذين يمتلكون المعلومة ويحتفظون بسريتها، وفى كثير من الأحيان يتم تعطيل آلية محاسبتهم وتقييمهم وتقف منظومة الثواب والعقاب عاجزة أمام ما قد يحققونه من فشل فى أداء مهامهم، وفى المقابل نجد معظم أهل الكفاءة والخبرة المسئولين عن تطوير أدوات العمل والابتكار وصناعة القرار وتنفيذه بعيدين عن المناصب الرفيعة لذلك نجدهم يعرضون عن الوظائف الحكومية وقد يهاجرون خارج البلاد بحثاً عن فرصة تناسب طموحاتهم ومؤهلاتهم وخبراتهم .. إن الجهاز الإداري المترهل فى مصر يحتاج لإعادة تقييم للشروط التى يتم بناءً عليها اختيار القيادات، فأهل الخبرة والمعرفة والعلم الذين يمتلكون الرؤية والفكر هم بمثابة حجر الأساس الذى يستمد منه أى نظام قوته وثباته .. وبدونهم من السهل أن تتهاوى أركان النظام .