بعض الروايات لا تقرأ فقط، بل تُعاش، وتخرج من الصفحات لتلح عليك كسؤال مفتوح عن التاريخ والهوية والمصير الإنساني، ورواية "عسل السنيورة" للكاتب شريف سعيد، والتي فازت بجائزة بجائزة نجيب محفوظ الرواية لعام 2025، تنتمي إلى هذا النوع النادر من الأعمال، رواية لا تكتفي بسرد حكاية، بل تعيد تفكيك زمن كامل، وتضع القارئ في مواجهة منطقة رمادية من تاريخنا، حيث تتشابك الوقائع مع التاريخ، والإنساني مع السياسي. أهمية رواية "عسل السنيورة" تنبع أولًا من اختيارها الذكي للحظة تاريخية شديدة الثراء، زمن الحملة الفرنسية على مصر، تلك الفترة كثيرًا ما قدمت في الكتب المدرسية أو الأعمال التقليدية باعتبارها صدامًا عسكريًا أو بداية احتكاك حضاري، لكن شريف سعيد يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى الهامش الإنساني للتاريخ، إلى مصائر الأفراد الذين سحقتهم التحولات الكبرى أو أعادت تشكيلهم دون أن يذكرهم أحد.
شخصية الزوجة العذراء "جوليا" ليست مجرد بطلة للرواية، بل عدسة نادرة نرى من خلالها مصر، وأوروبا، والعالم، من موقع امرأة تساق من قارة إلى أخرى، ومن هوية إلى أخرى، دون أن تفقد سؤالها الداخلي عن المعنى والانتماء، الرحلة التي تبدأ من باريس، وتمر بالإسكندرية والقاهرة وريف المنصورة، وتلامس أطراف مكة، ليست مجرد تنقل جغرافي، بل رحلة روحية ونفسية تكشف كيف يمكن للتاريخ أن يُعاد كتابته من جسد امرأة. لغة الروائي شريف سعيد كالعادة وفقًا لأعماله الروائية واحدة من نقاط القوة الأساسية في العمل، لغة عذبة، مشحونة بالشجن، قادرة على الانتقال بسلاسة بين الواقعي والغرائبي، بين اليومي والأسطوري، دون أن تفقد صدقها أو توترها الدرامي.
و المقطع الذي تتحدث فيه "جوليا" عن الغربة والثروة والوحدة يصلح لأن يكون مونولوجًا دراميًا مكتملًا، يكشف عمق الشخصية ويمنحها بعدًا فلسفيًا نادرًا في الرواية التاريخية، فتقول: أنا هنا وحيدة، الوحيدون لا يفرحون ولا يحزنون، فقط يتناولون الطعام من أجل البقاء، مُضافًا إليه نكهة الشجن! رُبما لا سعادة من دون أناس يفرحون معك بها وآخرين يتمنون لك زوالها ويحسدون، إن الثراء من دون التمرغ به فوق تراب وطنك الذى نبتت فيه أحلامك الأولى وتفتحتْ، لا يعنى سوى أنك حصدت عقب السنوات نفس ما تحقق للبهائم فى كل الزرائب، العلف الشهى والسقيا الموفورة والنومة الدافئة، رُبما ما زاد على بهيمة مثلى هو التختروان! أقسم بالرب إنى مُفلسة فوق تختروان يحمله أربعة من أغلى عبيد مصر! مهما بلغ جاهك فى أرض غير أرضك، فسوف تحيا فى عوز إلى الأبد! مهما كثر مالك فى بلد غير بلدك، فستظل فى بقاع غُربتك أفقر مما يظنون!
ومن هنا، لا تبدو الإشارة إلى إمكانية تحويل "عسل السنيورة" إلى عمل درامي ترفًا نقديًا، بل استنتاجًا طبيعيًا، فالرواية تمتلك كل مقومات الدراما القوية شخصيات مركبة، وصراع حضاري وإنساني، وتنوع مكاني وزماني". ورواية "عسل السنيورة هي "قماشة" ثرية تصلح لمسلسل تاريخي كبير أو فيلم سينمائي ملحمي، قادر على إعادة تقديم فترة الحملة الفرنسية من منظور جديد، بعيد عن النمطية.
الأهم أن رواية "عسل السنيورة" لا تقع في فخ تمجيد الماضي أو إدانته، بل تترك للقارئ حرية إعادة النظر في أحكامه المسبقة، إنها رواية تذكرنا بأن التاريخ ليس ما كتب فقط، بل ما لم يكتب، وما عاشه أناس عاديون في الظل.
في المحصلة نجد أن رواية "عسل السنيورة" عمل أدبي يستحق التوقف أمامه طويلًا، ليس فقط لجمالياته السردية، بل لجرأته في الاقتراب من تلك الأمور الصعبة في الذاكرة التاريخية، رواية تؤكد أن الأدب، حين يشتبك بصدق مع التاريخ، يمكنه أن يكون أكثر عدلًا وإنسانية.