يكتب : فليعتذر الرئيس .. هو ليس إلها لم تبدأ أزمة الصحفيين مع اجهزة الدولة باقتحام النقابة ، وإنما بدأت بتقرير نشرته صحيفة الشروق عن اجتماع للرئيس مع القيادات الأمنية وإبداء غضبه الشديد من سماح أجهزة الأمن بمظاهرات 15 أبريل في جمعة الأرض طالبا ألا يتكرر المشهد في 25 أبريل ، رغم أن الأمن المصري في ذلك اليوم أمعن في مطاردة المظاهرين واعتقالهم والتضييق عليهم في كل الميادين ، فلم يجدوا غير سلم نقابة الصحفيين. كان التقرير من أصدق مانشرته الصحف المصرية ، بدليل أنه تحقق بحذافيره .. ولم يشفع لصحيفة الشروق قربها من أجهزة الحكم ، حيث انتفضت الرئاسة وأصدرت بعد ساعات بيانا غاضبا "يكذب" التقرير ويدعو كافة الصحف إلى تحري الصدق ، وانتهى الأمر بإجبار الصحيفة على حذف الخبر ، ورئيس التحرير الصديق عماد الدين حسين على تقديم "اعتذار" . مايوجع في هذه القضية ، أننا إزاء احتجاج وطني بامتياز وغير مختلف عليه ، فهي السابقة التاريخية الأولى التي تتخلى فيها سلطة وطنية مصرية عن أرض مارست مصر عليها السيادة ، وسقط دفاعا عنها شهداء وأسرى ، ومع ذلك فإن الغضب بلغ بالسلطة مبلغه إلى حد أفقدها الرشد في التعامل مع شرائح واسعة من أطياف سياسية مختلفة ، بينهم علمانيون وليبراليون ويساريون ، ولا يمكن اتهامهم بحال من الأحوال بالخروج عن الوطنية ولا بالاصطفاف مع جماعة الإخوان (وهي قميص عثمان الذي يرفع في وجه كل معترض أو ناقد) بل هم معادون تماما لنهج الجماعة ، كما هو حال كاتب المقال. كأنه كان ينتظر من الجماعة الصحفية التي استأسدت على مرسي حين كان رئيسا قبل عزله في 3 يوليو 2013 أن تضع رؤوسها في الرمال ، وهي ترى نظاما يبطش ويفرط في الحقوق ويحاول قهر كل صوت ناقد أو معترض ، ويقصي كل مؤيديه ، لدرجة أنه لم يجد من يسانده في قضية "تيران وصنافير" غير ما اصطلح على تسميتهم بالمواطنين الشرفاء الذين يتم حشدهم من مناطق عشوائية وفقيرة مقابل مبالغ يدفعها "أثرياء ورجال أعمال مجهولين" مدفوعين بتحقيق امتيازات أو الحفاظ على مكاسب حققوها عبر تجاوز القانون. رئاسة الجمهورية ليس هناك من يورطها في شيء ، فهي أصبحت تقرع من "لايورطونها" وتتعهد بإسباغ الحماية عليهم إن هم ورطوها، ومن ثم فإن اقتحام نقابة الصحفيين في سابقة هي الأولى في تاريخ النقابة ، والذي تم تجاوزا للقانون والدستور ، لم يتم بمعزل عن مناخ عام ، تصنعه رئاسة الجمهورية بتوجيهاتها ، وعبر التصريحات المذاعة على لسان الرئيس نفسه. كنت مشاركا في اجتماع مجلس النقابة مع رؤساء التحرير وعدد من الزملاء الصحفيين أعضاء مجلس النواب ، وكانت التوصية التي انتهى إليها الاجتماع غير إقالة وزير الداخلية ، هي المطالبة بفك الحصار عن النقابة ، ومطالبة رئيس الحكومة بالاعتذار ، غير أن صوت جموع الصحفيين كان أعلى من صوت نحو 30 شخصا حضروا الاجتماع ، فلم ترضهم مطالبة باعتذار رئيس وزراء – يعرفون أنه لا يملك من أمره شيئا - وحين تلى الزميل كارم محمود التوصية ضجت القاعة التي شهدت اجتماع الجمعية العمومية مطالبة تغييرها لتشمل اعتذار الرئيس ، وحين تليت مرة أخرى تطالب باعتذار الدولة دون تحديد مسؤول بعينه ، تعالت الأصوات مرة أخرى ، وكان لا بد لمجلس النقابة أن ينزل على رغبة الجموع الهادرة. بعد انتهاء الاجتماع تعالت التحذيرات من التوصية ، من أعضاء برلمان ورؤساء تحرير عينتهم السلطة ويخشون على مناصبهم وإعلاميين يرون أن الوسيلة الوحيدة للبقاء على عرش النجومية هي نيل رضا قصر الرئاسة ، إذ أنها - في رأيهم - بدلا من أن تجعل الرئيس حكما بين السلطات أقحمته في الأزمة. الحقيقة أنه لم يجر اقحام الرئيس ، وإنما هو من أقحم نفسه في لوم مستمر للإعلام وتقريع له ، وضيق بممارسة الصحفيين لحريتهم في الانتقاد ، وتقريب للمادحين مع إقصاء لغيرهم ، وكأنه يعتقد أن دور الصحافة والقنوات الفضائية هي الدعاية للنظام ، والحديث ليل نهار عن انجازات لا يحس بآثارها الناس ، وإخفاء ما يرغب النظام في إخفائه ولو كان عين الحقيقة – كما هو حال تقرير الشروق - وذلك في ردة صريحة عن أهم مكاسب ثورة 25 يناير ، بل في ردة عما كان يتيحه الرئيس المخلوع حسني مبارك من "حرية الكلام". نقدر مقام الرئيس ونعتبره رمزا للدولة ولا نقبل الإساءة إليه من قريب أو من بعيد ، ولكن ما الذي يضيره في النزول على إرادة جموع الصحفيين خاصة وأنهم يمثلون جزءا من الضمير المصري العام الذي يحس أن مؤسسة من مؤسسات الدولة تنتهك القانون ، وأن السلطة التنفيذية التي يرأسها تتجاوز بحق السلطات الأخرى ، ما الذي يمنعه من الاعتذار عن خطأ ارتكبه جهاز الشرطة بدعم منه ؟ ليست المسألة عنادا ، ولا ينبغي لحاكم منتخب أن تأخذه العزة بالاثم ، كما أنه بشر يخطيء ويصيب وتخطيء أجهزته وتصيب ، هو ليس إلها ولا الأجهزة معصومة ، فالديمقراطية – وأنتم تقولون أننا في دولة ديمقراطية – أبسط مبادئها أن نستمع للرأي الآخر ونقدر أصحابه ولا نمارس إقصاء ضدهم . أسأل هل كانت أجهزة الدولة نفسها ستكون سعيدة لو أن الرئيس المعزول محمد مرسي هو من أبرم الاتفاق الذي يقضي بالتنازل عن تيران وصنافير ، وساد صمت وإظلام وقهر للصوت المعارض حتى يتم تسليم قطعة من لحم مصر الحي دون جلبة ؟ أم كان سيتم حشد الإعلام لمواجهة اتفاق مثل هذا ؟ السيسي مطالب ليس فقط باعتذار للصحفيين ، وانما باعتذار لكل مصري تضرر في عهده ، فالتقوى وحاجة الشعب لمن يحنو عليه ، ليست مجرد كلام يقال لتأتي أفعال معاكسة له . أود أن يسمع الرئيس السيسي هذه القصة التيرواها عبد الله بن احمد في الفضائل عن أسلم مولى عمر بن الخطاب،إن كان يريد حقا التأسي بحاكم عادل . يقول : خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم حتى إذا كنا بصرار إذا نار فقال يا اسلم إني لأرى ها هنا ركبا قصر بهم الليل والبرد انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم . فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون (أي يتصايحون) ، فقال عمر السلام عليكم يا أصحاب الضوء وكره أن يقول يا أصحاب النار. فقالت وعليك السلام فقال : ادنو فقالت أدنو بخير أو دع فدنا فقال ما بالكم قالت قصر بنا الليل والبرد قال فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون قالت الجوع قال : فأي شيء في هذه القدر؟ قالت : ما أسكتهم به حتى يناموا والله بيننا وبين عمر. فقال : أي رحمك الله وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا ؟ فقال : انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق فأخرج عدلا من دقيق وكبة من شحم ، فقال احمله علي ، فقلت أنا أحمله عنك قال أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك. فحملته عليه فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئا فجعل يقول لها ذري علي وأنا احرك لك وجعل ينفخ تحت القدر ثم أنزلها فقال أبغيني شيئا فأتته بصحفة فأفرغها فيها ثم جعل يقول لها أطعميهم وأنا أسطح لهم فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك. وقام وقمت معه فجعلت تقول جزاك الله خيرا ، كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين فيقول: قولي خيرا إذا جئت أمير المؤمنين وحدثيني هناك إن شاء الله ثم تنحى ناحية عنها ثم استقبلها فربض مربضا فقلنا له ان لنا شأنا غير هذا ولا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدأوا فقال يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت. لا تتولى – ياسيادة الرئيس – أمر الناس ثم تغفل عنهم ، أو تتكبر عليهم . الاعتذار عن خطأ ليس عيبا ، وإنما مكرمة ، إن فعلت ستحسب لك لا عليك !! المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية