لم أندهش كثيراً عندما سمعت وقرأت للبعض حججه المتهافتة لإلباس الجزر المصرية صنافير وتيران الدشداشة السعودية ، فهؤلاء الذين انبروا بعد الدقائق الأولي من توقيع الإتفاق الباطل كي يهللوا ويؤكدوا وكأنهم يعرفون ذلك منذ زمن بعيد ولديهم كل الأدلة علي هذا الزيف .. هؤلاء حكمهم للشعب والتاريخ .. ولكن هناك آخرين ، ممن يعتبرون أن "العمر صفقة " ، وأن كل شيئ قابل للبيع حتي الشرف والضمير والتاريخ والجغرافيا .. هؤلاء هم أصفياء مدرسة شيكاغو وسدنتها ، من كهنة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، وسماسرة البيع الرخيص الذين لا يخجلون من المسارعة ببيع بيت العائلة مقابل ثمن بخس يدخل جيوبهم ... تستند مدرسة شيكاغو في الاقتصاد إلى نظرية بسيطة، وهى أن الدولة تعرقل الاقتصاد، وإذا كان تدخلها مطلوباً، فيجب أن يقتصر ذلك على استخدام أدواتها القمعية ضد أولئك الذين يعترضون حركة حرية الأسواق. طبقاً لهذه المدرسة، فإنه من المحرمات أن تمتلك الدولة أو تمارس أى نشاط اقتصادى، ويحرم عليها كذلك أن تتدخل فى تحديد الأسعار أو دعم بعض السلع أواستخدام وسائل حمائية لمنتجاتها المحلية، ولذلك كانت بعض وصاياها أنه "لكي تنقذ بلادك من أزمتها الاقتصادية، فعليك أن تبيعها " .. وفى الواقع لم تجد هذه النظرية تطبيقاً كاملاً حتى فى أعتى الدول الرأسمالية مثل أمريكا وبريطانيا حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضى، فقد كان من المستحيل سياسياً على هذه الدول أن تتخلى عن ملكية الدولة و"المجتمع" لبعض وسائل الإنتاج والخدمات الحيوية مثل الخطوط الجوية والسكك الحديدية والكهرباء والصحة والتعليم.. إلخ. إلا أن أنبياء هذه النظرية وجدوا ضالتهم فى الدول المغلوبة على أمرها، وكان أبرز مثال تطبيقى هو دولة شيلى فى أمريكا اللاتينية. وقد عاصرت عن قرب أوضاع أغلب دول أمريكا اللاتينية فى بداية الثمانينات ، وأتيح لى دراسة التطبيق العملى لوصايا مدرسة شيكاغو فى دول مثل البرازيل والأرجنتين والأوروجواى والإكوادور، إلا أن شيلى كانت – من وجهة نظرى– المثل الأبرز.. لقد تمتعت شيلى بنظام ديمقراطى مستقر لمدة تناهز 150 عاماً، وكانت أوضاعها الاقتصادية معقولة حتى وصل سلفادور الليندى إلى سدة الرئاسة عن طريق انتخابات حرة نزيهة، وكان مدعوماً باتحادات العمال القوية، ومسلحاً بنظريات التنمية التى سادت فى دول العالم الثالث خلال ستينات وسبعينات القرن الماضى، خاصة فكرة التصنيع والإحلال محل الواردات، وتقريب الفوارق بين الطبقات، والتزام الدولة بدعم قطاعات الصحة والتعليم.. إلخ. . بمجرد وصول الليندى إلى الحكم أضاءت علامات الإنذار فى واشنطن، وقد أوضح كيسنجر فى مذكراته بعض الهلع الذى أصابهم فى إطار الحرب الباردة سياسياً،إلا أن أوساطاً أخرى ومنها مدرسة شيكاغو الاقتصادية هبت مدعومة بالعديد من الشركات العملاقة متعددة الجنسية ، ومعها بعض من درسوا فيها من الخريجين الشيليين، بالإضافة إلى المخابرات المركزية الأمريكية. كان الهدف ليس فقط إسقاط الليندى، وإنما القضاء على تراثه وعلى كل ما يمثله للاقتصاد الشيلى، وحيث إنه من الصعب استخدام الأسلوب الديمقراطى لتحقيق ذلك، فغالبية الشعب وخاصة الطبقة الفقيرة والمتوسطة كانت تدعم سياسة الليندى، فلم يعد سوى استخدام الانقلاب العسكرى كمرحلة أولى، ثم توظيف النظام العسكرى الجديد كى يقمع المعارضة بكل وحشية، تمهيداً لتطبيق النموذج المثالى لنظرية مدرسة شيكاغو.. تجدر الإشارة هنا إلى أن العديد ممن قاموا بانقلابات اقتصادية مماثلة في دول العالم الثالث مثل إندونيسيا وغيرها، كانوا من خريجى هذه المدرسة الذين حصلوا على منح تعليمية تم تمويلها بواسطة الشركات العملاقة مثل فورد، وعادوا إلى بلادهم كمبشرين بتعاليم مدرسة شيكاغو.. عندما حاصرت قوات بينوشيه قصر الرئاسة فى سانتياجو، وتوالى القصف المدفعى،وقبل أن يطلق الرئيس الشيلى الرصاص على رأسه منتحراً، قام بتوجيه رسالة إلى الشعب عبر الإذاعة قال فيها : "إننى على ثقة من أن البذور التى غرست فى ضمائر الملايين من الشعب الشيلي لا يمكن إزالتها.. إن أعداءنا يملكون القوة، ويمكنهم إخضاعنا، ولكنهم لن ينجحوا فى إيقاف التطورات الاجتماعية، سواء باستخدام الجريمة أو القوة.. إن التاريخ معنا، وسوف يصنعه الشعب". .. لقد كان الليندى مثله مثل أغلب اليسار فى العالم، يتصور أن الديمقراطية بمفهومها الليبرالى سوف تجعل الأغلبية المعدمة تصوت دائماً لصالح اليسار من أجل تحسين أوضاعها، إلا أنه كان رهاناً خاسراً، لأنه لم يأخذ فى الحسبان دورالشركات العملاقة وحوارييها من مثقفى مدرسة شيكاغو وحراسها من أجهزةالمخابرات والأمن القمعية، كما لم يدرك أو يتخيل البشاعة والقسوة التي تعامل بها بينوشيه مع شعب شيلى، حيث تم الانقضاض على ممثلى الاتحادات العمالية والمثقفين، وإعدام رموز المعارضة وإخضاع الشعب بالقوة السافرة.. شرع دهاقنة مدرسة شيكاغو فى العمل فوراً لإلغاء قرارات التأميم، وتسارعت الشركات الأجنبية كالذباب حول أهم مصادر الدخل الشيلى تشتريها بأبخس الأسعار، وتخلت الدولة عن دورها فى تحديد الأسعار، باختصار، وكما قيل وقتها، تم تفكيك الدولة كى يعاد بناؤها من جديد، وما أن ظهرت مراكز التسوق الكبيرة فى العاصمة حتى هلل كهنة الدين الجديد بما سموه "المعجزة الشيلية الاقتصادية"... لقد مات الجنرال بينوشيه فوق فراشه فى ديسمبر 2006 عن عمر يناهز التسعين عاماً، بعد أن طاردته الملاحقات القضائية ولعنات الضحايا بسبب الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان وجرائم وصفت بأنها تشبه الإبادة الجماعية، ومع ذلك كتبت عنه "نيويورك تايمز" أنه يستحق التقدير، لأنه نقل بلاده من شفا الإفلاس إلى أن تكون من أكثر دول أمريكا اللاتينية ثراءً، بينما كتبت عنه الواشنطن بوست أنه بإدخاله سياسة اقتصاديات السوق نجح فى خلق المعجزة الاقتصادية الشيلية..ومع ذلك فإن التقدير الموضوعى يشير بوضوح إلى أن ديون شيلى خلال فترة حكم بينوشيه تضاعفت عدة مرات، وأنه أثناء هذه "المعجزة" زادت البطالة إلى مايزيد على 30% عما كانت عليه خلال فترة حكم الليندى، وانتشر الفساد، بل أن ذلك أدى إلى لجوء بينوشيه نفسه إلى أساليب الليندى، حيث اضطر إلى تأميم بعض الشركات، ويكاد المحللون يجمعون أن الشىء الوحيد الذى أنقذ الاقتصاد الشيلى من الانهيار الكامل هو أن بينوشيه رفض بيع مناجم النحاس التى تمثل صادراتها 85% من الدخل القومى لشيلى، أى أن روشتة شيكاغو كانت دواءً ساماً قتل الآلاف من شعب شيلى مقابل تطبيق نظرية ثبت فشلها. عندما كنت أزور شيلى فى نهاية الثمانينات، قالت لى "فيرونيكا" التى تعمل في التليفزيون الشيلى: "أنظر إلى تلك المناطق الفقيرة خارج مركز المدينة، ستعرف أن الفقر قد حطم إرادة الناس، أن أكثر من نصف السكان تحت مستوى الفقر".. وعندما كنت أحدثها عن شاعر شيلى العظيم بابلو نيرودا، دمعت عيناها وقالت: "لقد سرق الأغنياء حياة الفقراء.. ماتت روح شيلى.. باعوها للشيطان" .. فهل تموت روح مصر .. هل ينجح السماسرة في بيعها للشيطان ؟؟ .. -------------- * مساعد وزير الخارجية الأسبق المشهد .. درة الحرية المشهد .. درة الحرية