منذ أن تسبب التحرر من القيود فى انهيار اقتصادى على مستوى العالم فى سبتمبر 2009، وأصبح الجميع كينزيين مرة أخرى، لم يعد من السهل رؤية معجبين متحمسين بالخبير الاقتصادى الراحل ميلتون فريدمان. وفقدت العلامة الدالة عليه، أو مذهب عصمة السوق الحرة، مصداقيتها على نطاق واسع، حتى يأس اتباعه من ادعاء انتصارات أيديولوجية، ذلك أنها بعيدة المنال بكل الطرق. وتمثل النقطة التى أناقشها حالة خاصة مثيرة للإشمئزاز. إذ بعد يومين فقط من الزلزال المدمر الذى ضرب شيلى، قال بريت ستيفينز الكاتب الصحفى فى وول ستريت جورنال لقرائه إن «روح ميلتون فريدمان كانت بالتأكيد محلقة فوق شيلى من أجل حمايتها»، لأن «بفضله إلى حد بعيد، تحملت البلاد مأساة كان من شأنها أن تمثل نهاية العالم فى أى مكان آخر.. فلم تكن صدفة أن الشيليين كانوا يعيشون فى منازل من القرميد والهايتيين فى منازل من القش عندما حل الحدث العاصف محاولا الإطاحة بهم». ووفقا لما قاله ستيفنز، فقد كانت السياسات الراديكالية للسوق الحرة التى أوصى بها ميلتون فريدمان الديكتاتور الشيلى أوجستو بينوشيه و«صبية شيكاغو» سيئى السمعة التابعين له، سببا فى كون شيلى دولة مزدهرة لديها «قوانين بناء من أكثر قوانين العالم صرامة». وتوجد بالأحرى مشكلة كبيرة فى هذه الرواية: فقانون البناء الحديث المتضمن تأثير الزلازل فى شيلى، الذى تمت صياغته من أجل مقاومة الزلازل، تم إقراره عام 1972. وهذا العام بالغ الأهمية، حيث يسبق بعام استيلاء بينوشيه على السلطة فى انقلاب دعمته الولاياتالمتحدة. ويعنى هذا أنه إذا كان هناك شخص يستحق الثناء بسبب هذا القانون، فلن يكون فريدمان، ولا بينوشيه، بل سلفادور الليندى، الرئيس الشيلى الاشتراكى المنتخب ديمقراطيا. (فى الواقع يستحق شيليون كثيرون الثناء، حيث كانت القوانين استجابة لسجل من الزلازل، وتم إقرار القانون الأول فى الثلاثينيات). ورغم ذلك، فما يبدو مهما هنا، إن القانون أقر حتى فى غمار الحصار الاقتصادى الخانق (بعد صيحة ريتشارد نيكسون الشهيرة بعد فوز الليندى فى الانتخابات عام 1970 قائلا: «لنجعل الاقتصاد يصرخ»). وتم تحديث القانون فيما بعد فى التسعينيات، تماما بعد خروج بينوشيه وصبية شيكاغو من السلطة أخيرا واستعادة الديمقراطية. والأعجب من ذلك، كما أشار بول كروجمان إلى أن فريدمان كان مترددا بشأن قوانين البناء، ونظر إليها باعتبارها تعديا آخر على الحرية الاقتصادية. ويعنى القول بأن السياسات التى تبنت توصيات فريدمان كانت سببا فى معيشة الشيليين فى «منازل من القرميد» بدلا من «القش،» عدم معرفة ستيفنز أى شىء عن شيلى قبل الانقلاب بصورة واضحة. إذ كان لدى شيلى فى الستينيات أفضل أنظمة للصحة والتعليم فى القارة، وكان لديها كذلك قطاع صناعى نابض بالنشاط وتوسع سريع للطبقة الوسطى. كما أدى إيمان الشيليين بدولتهم إلى انتخابهم الليندى حتى يمضى بالمشروع إلى ما هو أبعد. وبعد الانقلاب وموت الليندى، بذل بينوشيه وصبية شيكاغو قصارى جهدهم فى تفكيك القطاع العام فى شيلى، وبيع مشروعات الدولة فى المزاد، وإنهاء الضوابط المالية والتجارية. وتحققت ثروة هائلة فى تلك الفترة ولكن فى مقابل تكلفة فادحة: فحتى بداية الثمانينيات، أدت سياسات بينوشيه، التى أوصى بها فريدمان إلى التخلى السريع عن التصنيع، وزيادة البطالة بمقدار عشرة أضعاف، والانتشار السريع لمدن الصفيح المتداعية بصورة واضحة. كما أدت إلى أزمات الفساد والدين شديدة العنف، حتى أنه فى 1982، اضطر بينوشيه إلى إقالة أهم مستشاريه من بين صبية شيكاغو وأمم العديد من المؤسسات المالية الكبرى غير المتبعة للضوابط. (هل يبدو هذا مألوفا)؟ لحسن الحظ، لم ينجح صبية شيكاغو فى إلغاء كل ما انجزه الليندى. فبقيت كوديلكو، شركة النحاس القومية، فى يد الدولة تضخ الثروة فى الخزانة العامة بما يحول دون صبية شيكاغو وسحق الاقتصاد الشيلى بالكامل. كما أنهم لم يصلوا أبدا إلى التخلص تماما من قانون الليندى الصارم للبناء، وهذه سهو يجب نشعر تجاهه بالامتنان. New York Times Syndication Service