كان الحديث يدور مع صندوق النقد الدولي حول قرض يبلغ4.8 مليار دولار, وفائدة ضئيلة نسبيا تبلغ1.1%, وبغض النظر عن التصريحات العنترية الإخوانية التي رفضت قرضا سابقا من نفس الصندوق, وهاجمت من أجله حكومة الجنزوري, وبغض النظر عن فعالية هذا القرض في إنقاذ الإقتصاد المصري, فأن ما ناقشناه مع فريق الصندوق تركز علي الشروط أو البرنامج الذي ينبغي أن تلتزم به الحكومة مقابل الحصول علي القرض. وحيث أنه سبق لي أن واكبت تطورات الأوضاع في دول أمريكا اللاتينية في ظروف مشابهة, وقمت بعمل دراسات علي مرحلة التحول الديمقراطي في هذه الدول, فأن أبرز ملاحظة هي أن أغلب تلك الدول قد انصاعت لشروط الصندوق كي تخرج من أزماتها الإقتصادية, وكانت النتائج وخيمة. فمن المعروف أن الصندوق يتبع مدرسة شيكاغو في الإقتصاد, وتركز هذه المدرسة علي أن الدولة تعرقل الإقتصاد, وأن التدخل الوحيد المسموح للدولة هو استخدام إمكانياتها القمعية ضد من يعترض علي حرية الأسواق. تستند نظرية هذه المدرسة علي أن الدولة لا يجوز لها أن تمتلك أو تمارس أي نشاط اقتصادي, ويحظر عليها التدخل بأي شكل في تحديد الأسعار أو دعم بعض السلع أو استخدام وسائل حمائية لمنتجاتها المحلية, ولذلك فمن أبرز وصاياها أنه لكي تنقذ بلادك من أزمتها الإقتصادية, فعليك أن تبيعها. ومن الطريف أن وصايا هذه المدرسة لم تجد تطبيقا مثاليا لها حتي في أكبر الدول الرأسمالية مثل أمريكا وبريطانيا حتي نهاية ثمانينيات القرن الماضي, حيث كان يستحيل علي هذه الدول أن تتخلي عن ملكية الدولة والمجتمع لبعض وسائل الإنتاج والخدمات الضرورية مثل الخطوط الجوية والسكك الحديدية والكهرباء والصحة والتعليم.. إلخ. ومن أمثلة التطبيق في الدول المغلوبة علي أمرها مثل دول أمريكا اللاتينية في منتصف سبعينيات القرن الماضي, يمكن الإشارة إلي تشيلي, تلك الدولة التي تمتعت بنظام ديمقراطي لمدة تناهز150 عاما, وكانت تحظي بأوضاع اقتصادية معقولة, حتي وصل سلفادور الليندي إلي منصب الرئاسة عن طريق الإنتخابات, مدعوما باتحادات العمال القوية, ومسلحا بنظريات التنمية التي سادت في دول العالم الثالث خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي, خاصة فكرة التصنيع والإحلال محل الواردات, وتقريب الفوارق بين الطبقات, والتزام الدولة بدعم قطاعات الصحة والتعليم.. إلخ. أضاءت علامات الإنذار في واشنطن, وذكر كيسنجر في مذكراته عن تلك الفترة مقدار الهلع الذي أصاب أمريكا في اطار الحرب الباردة سياسيا, إلا أن أوساطا أخري منها رهبان مدرسة شيكاغو الإقتصادية هبت مدعومة بالعديد من الشركات العملاقة متعددة الجنسية, ومعها بعض المثقفين الشيليين الذين درسوا وتخرجوا في هذه المدرسة, فضلا عن المخابرات المركزية الأمريكية. لم يكن الهدف مجرد إسقاط الليندي, وإنما القضاء علي تراثه وعلي كل ما يمثله للاقتصاد الشيلي, وبالتالي تم الترتيب لإنقلاب عسكري, ثم تم توظيف النظام العسكري الجديد كي يقمع المعارضة بكل وحشية, تمهيدا لتطبيق النموذج المثالي لنظرية مدرسة شيكاغو. كان الليندي يتصور أن الديمقراطية بمفهومها الليبرالي سوف تجعل الأغلبية المعدمة مساندة له, ولكنه كان رهانا خاسرا, فهو لم يأخذ في حسبانه دور الشركات العملاقة وحوارييها من مثقفي مدرسة شيكاغو, وحراسها من أجهزة المخابرات والأمن القمعية, كما أنه لم يدرك أو يتخيل البشاعة والقسوة التي تعامل بها النظام العسكري بقيادة بينوتشيه مع الشعب حيث تم الإنقضاض علي ممثلي الإتحادات العمالية والمثقفين, وتكميم الإعلام, وإعدام رموز المعارضة وإخضاع الشعب بالقوة السافرة. وقام كهنة مدرسة شيكاغو علي الفور بإلغاء قرارات التأميم, وهرولت الشركات الأجنبية كالذباب حول أهم مصادر الدخل التشيلي تشتريها بأبخس الأسعار, وتخلت الدولة عن أي دور لها في النشاط الاقتصادي, وقد زادت ديون تشيلي خلال هذه الفترة أضعافا مضاعفة, وانتشر الفساد, ولم يعد لدي الفقراء في تشيلي حتي فرصة الإعتراض, نتيجة للقبضة الحديدية التي سيطرت علي البلاد. ويجمع المحللون علي أن نجاح تطبيق النظرية الاقتصادية لمدرسة شيكاغو يحتاج في البداية علي الأقل إلي التوسع في قمع المعارضة حتي يتسني تمرير الدواء المرير, ويدعي كهنة هذه المدرسة أن معاناة الفقراء ستزيد فقط خلال الفترة الأولي من التطبيق, ويقدرونها بنحو خمسة إلي عشرة أعوام, وبعد ذلك ستلعب اليد الخفية للأسواق دورها في رفع مستوي معيشة كل السكان. وتجدر الإشارة إلي أن أغلب الفريق الإقتصادي للنظام الأسبق في مصر كان من سدنة هذه المدرسة, وبالفعل كانوا يحاولون حل الأزمة الاقتصادية لمصر من خلال بيعها عن طريق برنامج الخصخصة, ولكنهم لم يجرأوا علي المس بالدعم, لأنه سيكون القشة التي تقصم ظهر البعير, ورغم الإستمرار في التطبيق لمدة تجاوز ثلاثين عاما, فأن أغلب الشعب المصري لم يشعر بأي عائد ملموس في تحسين أحواله المعيشية, وكانت النتيجة هي زيادة الفساد بكل صوره, مع اتساع الهوة بين الطبقات, في ظل ممارسات قمعية أدت في النهاية إلي الإنفجار.. علي من رضعوا مثل هذه النظريات ولم يفطموا منها بعد أن يدركوا أن ذلك هو طريق الندامة, وأن الشعب المصري لن ينحني أمام أي وسائل قمعية التي بدونها لا يمكن تطبيق هذه الأفكار الوحشية, وأن طريق السلامة هو حكومة رشيدة تراعي تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال إجراءات عاقلة تهدف إلي إعادة توزيع الثروة والمشاركة العادلة في تقاسم الأعباء.. وهذا موضوع آخر... لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق