بين جدران الكلية الحربية أسرار عاشتها أجيال من أبناء ( الشرف ، الواجب ، الوطن ) ، ذلك الشعار/ النداء الذي كانوا يهتفون به فتهتز أرجاء مصنع الرجال ، ومنطقة مصر الجديدة ... من البديهي أن هناك أسراراً لا تقال ، وستدفن مع هؤلاء الرجال ، ولكن هناك أسرار أخري أقل خطورة يمكن تداولها .. وحيث أننا نعيش هذه الأيام أجواء الذكري الثانية والأربعين لحرب أكتوبر ، فقد رأيت أن أستدعي من مخازن ذكرياتي تلك الأيام الصعبة والجميلة في نفس الوقت التي أمضيتها بين جدران الكلية الحربية .. كانت حرب الإستنزاف تدور علي أشدها ، وأتابع أحداثها بشغف بينما كنت أواصل دراستي بالسنة الإعدادية لكلية الهندسة جامعة عين شمس ، كنا نتجمع ونتحاور في حديقة الكلية الكائنة في ميدان عبده باشا في العباسية ، نفس الشباب الذي شارك قبل عامين في مظاهرات غاضبة بعد صدور أحكام القضاء ضد بعض قادة الجيش وخاصة الفريق صدقي محمود قائد القوات الجوية ، حيث اعتبرناها إهانة لدماء الشهداء ، وعلامة علي عدم الجدية ، وخرجت مظاهراتنا تهتف بالقصاص والتغيير والديمقراطية .. قمنا بتشكيل لجان مختلفة ، وأتذكر المنشورات التي كتبتها مع زميلي ناجي النجار ووقعناها بإسم " إتحاد الطلاب الأحرار " ، والتي تطالب بضرورة محاكمة شفافة لكل من تسبب في نكسة 67 ، وأهمية القضاء علي النظام البوليسي الأمني الذي كان يروع الناس ، وطالبنا أيضاً بأهمية الديمقراطية السياسية بنفس قدر الديمقراطية الإجتماعية .. انتهت تلك الأزمة بعد لقاء أجراه جمال عبد الناصر مع الشباب ، وأعيدت المحاكمات أستجابة لضغوط الرأي العام ، وبدأ ناصر تغييرات عميقة في قيادات القوات المسلحة ، وارتفع شعار " يد تبني ويد تحمل السلاح " و " إزالة آثار المعركة " .. من رحم هذه الأحداث خرج جيلي ، وأتذكر اللحظة التي اتخذت فيها قراري بترك كلية الهندسة بعد أن أنتظمت فيها لعام كامل ، كي ألتحق بالكلية الحربية .. كنت مع بعض أصدقائي نتدرب علي " التحبير " في الرسم الهندسي ، ثم خرجنا إلي حديقة الكلية مساء كي نواصل الحديث الذي لا يتوقف عن دورنا في معركة التحرير المنتظرة .. أتذكر أنني قلت آنذاك أن إسرائيل تهزمنا لأن ضباط وجنود جيشها لديهم قدرات علمية وعقلية مميزة ، ولابد لطلبة الطب والهندسة في مصر أن يتخلوا عن أنانيتهم ويلتحقوا بالكلية الحربية .. بالطبع كان هناك من وافق ومن أعترض ، وكانت حجة المعترضين ( التي كانت فيما بعد حجة والدتي أيضاً رحمها الله ) أننا بعد التخرج من كلياتنا المتفوقة قد نكون أكثر فائدة للبلد .. لكنني لم أكن أستطيع الإنتظار أربعة أعوام أخري ، وأخذت قراري وأخليت طرفي من كلية الهندسة دون علم الأسرة ، ولا زلت أذكر الرقيب الذي كان يتسلم أوراقي في الكلية الحربية والذي طلب أن يحضر ولي أمري كي يتأكد من موافقته ، وكدت أن أبكي وأنا ارجوه إستلام أوراقي ، بينما هو ينصحني بالتفكير لأن مصلحتي أن أستكمل دراسة الهندسة وبعد ذلك يمكنني الإلتحاق بالجيش كي أشارك في تحرير سيناء ، ولا زلت أذكر ردي عليه بدهشة وغضب : " هي سيناء ها تستني محتلة أربع سنين كمان ؟!! " .. كانت الأيام الأولي في الكلية الحربية شديدة الصعوبة والقسوة ، فلم أكن سوي مجرد رقم يتلقي الأوامر طول الوقت وعليه أن يطيعها بلا أدني تردد ، وكانت التدريبات الأولية شاقة مهلكة تستغرق اليوم كله ، فنبدأ قبل طلوع الشمس ، ونظل في حالة إنهاك وضغط بدني ونفسي طوال اليوم حتي موعد تناول طعام العشاء في الميس .. وكان " البروجي " هو الآلة التي تجمعنا وتفرقنا ، وكانت أشد نوباته إزعاجاً هي " نوبة صحيان " ، التي كانت تنزعنا نزعاً من فوق أسرتنا كي نهرول بسرعة إستعداداً لتفتيش نوبة لبس أول ... كنا بلا استثناء تقريباً نكره " نوبة صحيان " ، حتي اعتدنا عليها ، وصارت جزءاً من ساعتنا البيولوجية ، لدرجة أننا كنا في الغالب نستيقظ ثوان قبل أن يبدأ البروجي في الصياح ... وكانت أحلي نوبة بلا جدال هي نوبة رجوع التي تحدد نهاية اليوم ومشقته ، فعندما ينفخ البروجي لحنها المميز ، غير مسموح لأي فرد أن يكون بعيداً عن فراشه ، فكل واحد يقف إنتباه إلي جوار الفراش في إنتظار النوبة التالية التي هي الأحلي بلا منازع : " نوبة نوم " .. فنقفز إلي أسرتنا ونلقي بأجسادنا عليها متهالكين .. يعزف البروجي نوبة رجوع في مراسم دفن شهدائنا في المعركة ، قبل إطلاق بعض الطلقات في الهواء تحية لروح الشهيد ، وقد أرتبط ذلك في ذهني بشكل رمزي باستعادة روح القتال مرة أخري بعد أن نودع أجسادنا تحت الرمال .. نوبة رجوع للأمل والرغبة المؤكدة في الإنتصار ، لذلك ظل الصوت المميز لنوبة رجوع يحتل مكانة خاصة في نفسي بإعتباره نداء التأهب لمرحلة جديدة أفضل .. لم يكن لنوبة نوم مكاناً في حياتنا العسكرية بعد التخرج من الكلية الحربية ، بل أن " النوم " نفسه قد أصبح عزيزاً خاصة في الأيام الرائعة من شهر أكتوبر 1973 ، وكنا كمقاتلين في الصاعقة المصرية نتناول أقراصاً أسمها علي ما أذكر " ريتالين " كي تساعدنا علي أستمرار اليقظة وعدم النوم ، وبالفعل لم نغفل خلال ذلك الشهر سوي سويعات نادرة ومحسوبة بدقة ... لم يكن قد مضي علي إنتصارنا زمن طويل ، حين بدأ الإنفتاح الإقتصادي في العام التالي وبدأت عملية نهب مصر ، وحين صعد الرئيس السادات إلي الطائرة متوجهاً إلي القدس ، نفخ البروجي نوبة نوم .. نوم طويل !!! -------------- * مساعد وزير الخارجية الأسبق المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية