سألت عنه حالما وصلت الى بلدته، أخبروني وهم مستغربين من سؤالي انه يذهب الى حقله بعد صلاة الفجر ولا يعود إلا قبل الغروب، واخبروني انه يبنى لنفسه بيتاصغيرا في وسط الزراعات. سألتهم أن يصفوا لى كيف اذهب اليه، فدلنى احدهم وشكرته. مشيت طويلاً بجوار جدول ماء مستقيم حتى اصل اليه ، اقتربت من الحقل وكنت اراه من بعيد وهو يرفع الطوب من على الأرض ويرصه على الحائط، كان يعمل بجد كما اعتدت أن أراه من قبل. جلست أنظر إليه من بعيد من خلف سنابل القمح الذهبية. لكن ليس هذا أحمد الذى أعرفه ! اشتعل الشيب فى رأسه وزادت على وجهه القسمات وانحنى ظهره ونحف جسمه، كأنه ليس أحمد لكنه أحمد! لقد نالت الحياة من صديقي بالتأكيد بعدما فقد زوجته؛ هكذا أخبرني الرجل الذى دلني على حقل أحمد، قال أن زوجته توفت بعد مرض وأنه يعيش حالياً لوحده. مسكين صديقي هذا. بقيت جالساً مكانى ولم ينتبه لي أو يلتفت نحوي، أنظر إليه وأقارن بين أحمد الآن وأحمد الذي قابلته آخر مرة منذ عشرة سنوات. وقفت وتقدمت خطوات نحوه وناديت "أحمد" وعلى وجهى إبتسامه لرؤيته بعد سنين. إلتفت نحوي ونظر الى وفغر فاه! يبدو أنه نسيني هل تغيرت ملامحي لهذا الحد أم أن الزهايمر أصابه ؟! لم يرد واقترب منى وحملق بعينيه اكثر فى وجهي؛ - أ مجيد انت ؟- أجل يا صديقى، فردَ ذراعيه وأرتمى هلى صدري وبحرارة وشوق وإشتياق لصديق لم يره من سنين، صار يبكى حتى تبلل قميصي من دموعه، أيقنت حينها أن صديقى فى عقر الوجع تائه. بكى كثيرا كثيراً، لأول مرة ارى لأحمد دموع. منذ عقد من الزمن جميعنا كان يظن أن أحمد جبل أشم لا تقوى عليه ظروف ولا تعصف به رياح. ربتُ على كتفه وانا احبس دموعي فى عينيَ ثم جلسنا على الطوب المصفوف على الأرض، وكان المكان جميلا جداً ، القمح ينادى الحصادين والشتاء يودع الحقول. ما إن جلسنا حتى بدأ يسرد لى معاناته فى العشرة سنوات دونما أطلب منه او اسأل، حتى لم يسألنى عن حالي وكيف كنت، صرتُ آذانًا صاغية له أسمعه بتأن. حكى عن مرض زوجته واستغلال الأطباء لظروف المرضى، دموعه تسيل على خديه وهو يشرح لي حالتها ويحكي ، يقول انها كانت تصرخ من الألم ولا دواء يفيد ولا المسكنات سكنت ألما أو قللت منه. قال أنه باع سيارته وأرضه ولم يتبق له غير هذه القطعة من الأرض التى نجلس فيها والبيت الذي في القرية. قال لولا سبق الموت اليها لبعت كل شيء من أجلها. لم اسأله عن ولده ، انتظرته هو يتحدث عنه ، كنت أخشى أن يكون قد حدث له مكروه وسؤالى سيوجعه فوق وجعه! حتى انتقل هو من مأساة زوجته ومفارقتها للحياة ليتحدث عن إبنه محمد الذى كان يحكى لنا عنه كثيرا وكان سعيد به جداً، كان وقتها عمر محمد 14 سنة. انهى محمد مدرسته الثانوية وفترة الخدمة في الجيش وطلب والح على والده أن يسمح له بالسفر إلى ليبيا ليعمل ويبني مستقبله كغيره من الشباب، ويحاول ان يُريح والده ويخرج به من الكد والتعب إلى الراحة ويحاول أن يسترجع ما باعه والده من أجل علاج امه. يقول وهو يجهش في البكاء أنه لا يعرف شيئاً عن ولده والبعض يقول أنه تشاجر مع أحد أبناء القبائل في بنغازي وأختفى بعدها. هنا شردت انا عنه، أبكي على حال شبابنا الذى يسافر ليُهان بالخارج ويقبل الذُل والهوان من أجل أن يعود بعد أعوام بمبلغ يحارب به واحدة من الازمات التى تواجه أهله. كنت أرى ابن الثلاثين عامًا كأنه في الخمسين عام من ثقل الهموم، زمن ثارت فيه الهموم على أهل مصر بكل ما أوتيت من قوة، ثارت وفضحت الناس وجوههم، لم تتمرد الهموم فى دواخلهم فقط، بل خرجت تتباهي على وجوههم... - مجيد مجيد! أدركني صديقى وعاد بى من شرودي إليه وأكمل يحكي. حكى عن مضايقة جيرانه له بعد ضعفه، وأن الرحمة تبخرت من قلوب البشر. عندما قررت زيارة صديقى أحمد، كنت أرسم صورة أخرى عن التى وجدته عليها، كنت أتخيل عائلة سعيدة وريفا جميلا، كنت أتخيلنى وأنا العب مع أولاده. شرد ذهني عنه مرة ثانية، اُفكر كيف حدث كل هذا لصديقي المسكين الذى يُرثى لحاله. ردني ثانيةً من شرودي وسألنى ماذا بك ؟... قلت؛ لا شيء وابتسمت... دخل البناء الذى لم يكتمل بعد، وأخرج الشيشة وغسلها وأحضر قطعة من حطب السنط والقش وأشعل فيها النار بجوار الجدار الجديد ثم عاد الى جواري. كنت مترددا هل اُدخن معه ام لا! وفى النهاية دخنت معه وشربنا الشاى على جمر السنط. نسينا همومنا بعض الشيء وضحكنا وحكينا عن أصدقائنا القُدامى. توجد فى حقل أحمد شجرة سدر "نبق" صغيرة مليئة بالثمار الطازجة، كنت أجتنى منها وآكل حتى شبعت. قاربت الشمس على توديعها لليوم ، وأحمد إنتهى من عمله وغسل يديه ورجليه في الرُبع "القناة" الصغير الذي يمر بجوار أرضه من الطين وغير ملابس العمل ووضعها على كتفه ليغسلها فى البيت، وقال هيا بنا إلى البيت. عدنا فى نفس الطريق الذى أتيت من إليه... كنا إذا مررنا على الناس نلقى التحية، لفت إنتباهي أن أغلب الناس يقولون "يا شيخ أحمد" ! سألته لماذا يقولون يا شيخ أحمد ؟! ضحك ولم يهتم وهرب إلى موضوع آخر! ... ما إن وصلنا أمام البيت أُذن مسجد القرية لصلاة المغرب. البيت من الخارج قديم جداً، مبني بالطوب اللبن، الشبابيك من الخارج مطلية بالطين!الباب به ثقوب كتيرة، والألون بهتت جداً وسقطت أجزاء كثيرة منها، أصبح الخشب عارياً يحكي عُمره... ركل أحمد الباب برجله ركله خفيفه، فُتح الباب ودخلنا .. مفتاح الباب ركلة!دخلنا البيت، ضغط على زر فى الحائط أضاءت لمبة فى وسط الصالة ، ضوؤها ضعيف. البيت صالة وغرفتين على ما يبدو، أرى بابين امامي! أخبرني أن الحمام خارج البيت... ! الجدران من الداخل أيضاً لم تأخذ طبقة طين، لذا يمكنك عد اللبنات على الجدران، وأرضية البيت من تراب مدكوك. أحضر لنا عشاء بسيطا ، وصار يتنقل من قناة الى أخرى على التليفزيون فى انتظار نشرة التاسعة على القناة الأولى. كان قد أحضر لى سجادة ووسادة أفترشهم على دِكة "أريكة" من الثلاثة الموجودات فى الصالة. ما إن إتكأت على الوسادة حتى سقطت رأسي عليها ورحت فى النوم من تعب السفر وبقائى طوال اليوم مع أحمد فى الحقل. نائم على جنبى الأيمن ويدى اليمنى مُكورة وكفي تحت رأسي، عيناي محملقتين فى رجل يجلس أمامي يعطينى ظهره! بين يديه إناء يخرج منه دخان كثيف أنا لا أستطيع أن أتحرك أو أفعل أى شيئ ، حتى أنفاسي لا تخرج كما أريد ، كأنى مُكبل مُقيد بسحر...! إستدار الرجل برأسه نحوي ورمقني بنظرة غريبة، كأني أعرف هذا الرجل، كأنى رأيته من قبل..! أنه أحمد صديقى...! أجل هو أحمد... أدار رأسه بسرعة عني، وصار يواصل ما كان يفعله. البيت يهتز بقوة، أهو زلزال بأقوى درجاته ؟، وأحمد جالس يواصل عمله ولم يكترث!أريد الهروب ولا أستطيع، أريد أن أصرخ وأطلب النجدة ولا أستطيع .. مُكبل مُكبل!! أستقر البيت وهدأ... يوجد بجوار أحمد إناء فيه ماء على ما يبدو، أخذه وقام من على الأرض، وصار يصب قليل من الماء فى كل ركن فى الصالة. عاد وجلس مكانه مرة أخرى، وصار يتمتم بكلمات لا أفهم لها معنى. قام مره أخرى، وفتح أحد البابين الموجودين فى الصالة ، دخل الغرفة وخرج منها وفى يديه أناء كبير وأربعة مسامير طول المسمار منها بطول كف اليد، ثم فتح بعد ذلك باب البيت وخرج ، ودخل وهو يحمل قشا وحطبا وضع الأناء أمامه ووضع فيه القش والحطب بطريقة غريبة ، ثم أشعل النار بعد ذلك ووضع فيها الأربعة مسامير الدخان ملء البيت ، يخرج من الفتحة الوحيدة التى فوق الباب والشبابيك مغلقة. أنا اتساءل ! أين الجيران من هذا، الم يشعروا بكل هذا الدخان الذى يخرج من بيت جارهم ؟! لا أستطع أن أفعل أى شيئ ، فقط أسمع وأرى! صار لون المسامير فى النار أحمر كالجمر تماماً... سحب أحمد إناء الماء وقربه بجانبه، ذُهلت أكثر عندما أدخل يده فى النار يقلب المسامير والجمر كما لو تُقلب المرأة العجين! نفض يديه بعد ذلك وسحب المسامير الأربعة بيده أيضاً والقى بها فى الماء .. سمعت صوت طشيش المسامير وهو تُطفأ. أخرج المسامير بعد ذلك ووضعهن على رف صغير موجود فى الصالة رفع بعد ذلك إناء الماء وصب الماء كله على النار، زاد اشتعال النار ولهيبها وصل لسقف البت ولم تنطفئ! وفجأه طار سقف البيت تماماً ولا أعرف أين ذهب، أرى السماء والنجوم لا يحجبها عني شيئ... بدأت أرتفع بفراشي عن الأرض ببطء وفجأة أسرعت إلى الأعلى كأني أركب بساط علاء الدين، أرى البيوت الريفية من أعلى والأنوار الخافتة وفوقى السماء والنجوم فى ألق وبهاء... دخان كثير يخرج من بيوت كثيرة كالذي يخرج من بيت أحمد ، بدأ الدخان جميعه يتشابك حتى حُجبت عني رؤية اي شيئ أسفله. أشتدت الرياح أعلى، رياح باردة تضربني من اليمين، وأخرى ساخنة تلفحني من اليسار.. ! ما هذا الذى حل بك يا مجيد ؟! فجأة سحبتني دوامة هواء شديدة، وصارت تلف بي فى داخلها بسرعة بسرعة ، لا أستطيع أن أُمُيز شيئا أو أرى شيئا على أثرها فقط أدور وأدور حتى غبت عن الوعي. قمت من نومي مفزوعا على صوت أحمد - مجيد مجيد! نعم نعم نعم .. من ؟ ما هذا ؟! الغريب، ونحن خارجين من البيت الى الحقل وجدت الرف الصغير وعليه الأربعة مسامير كما وضعهم أحمد فى الكابوس...! بعدما أستيقظت وأفقت من نومي ذهبنا إلى الحقل وواصل أحمد عمله وكنت أساعده كنت اُفكر كثيرا فى كابوس الأمس الثقيل المخيف، أحاول أن أجد له تفسيرا! كان حقاً كابوساً مخيفا ثقيلاً، جعلنى أخاف من صديقى! قبل غروب الشمس تركنا الحقل فى طريقنا للبيت، وقبل أن ندخل البيت أذن لصلاة المغرب كما الأمس. أيضاً نمت على نفس الكنبة التى نمت عليها بالأمس ما أن وضعت رأسي على الوسادة حتى دخلت فى نفس الكابوس الذى عذبنى الليلة الماضية، وزاد عليه أن مخلوقات ذات شكل غريب تلاحقنى تريد أن تقتلنى ولا أعرف سببا! منها ما يجرى خلفي بسيوف وخناجر، ومنهم من يمسك نار بلهيبها يريد أن يحرقني ، ومنهم من له أسنان مدببة ويسيل من فمه لعاب يذيب الجلد ويريد أن يمزق جسمي بأسنانه. فى هذه الليلة قمت من نومي فزعاً أصرخ. أدركني أحمد - مجيد مجيد ماذا بك ؟! - أموت أموت سيقتلوني... - استعذ بالله وأهدأ جاء أحمد بماء، أفقت وشربت وهدأت ونمت مرة أخرى بسلام حتى أيقظنى أحمد فى الصباح لنذهب الى الحقل طوال الطريق وأنا أُفُكر أن أرحل، لم أرى كابوسا مثل هذا ابدا، ونفس الكابوس فى يومين ، وكل يوم يُضاعف الفزع! بعد أن قضينا نصف اليوم قلت له لا بد أن أرحل يا صديقى عليَ بعض الأعمال لا بد أن انجزها. - لم أشبع منك يا مجيد... - سأعود لزيارتك مرة أخرى يا صديقي... أخرجت من جيبي مبلغ من المال وقدمته له ، وقلت له عندما أصل الى بلدى سأرسل لك ما تحتاج لأنى لا أحمل فى جيبى نقودا كثيرة. رد يدي رأفضاً أن يأخذ ما قدمت له وقال... - لا أحتاج المال أبداً، أنا أملك ما لا تملكه، أملك أموالا لا يملكها أحد لا فى هذه المحافظة أو المدينة... أستغربت من هذا الرد، أى قناعة هذه ؟! - كيف هذا ، كيف اُصدقك يا أحمد ؟.. أخذني من يدي وفى يده الأخرى الفأس، ودخلنا البيت الطيني الذى لا زال يبنى فيه كان قلبي يرتجف كأنه سيقفز من صدري خوفاً مما يجرى بعد ما رأيت نفس الكابوس فى يومين وأن هذا يقول لى أنه اغنى رجل.. ما ان دخلنا حتى أفلت يدى وتقدم ناحية اقرب ركن للباب ناحية اليمين وصار يحفر. لا أكاد أُصدق ما أرى ، ماذا يحدث ؟! هل يحفر ليقتلنى ويدفنني.. هكذا يقول كابوس الأمس ؟! لا لا أنه صديقى وأعرفه جيداً ، لا يمكن أن يتصرف هكذا... حفر ثم حفر ما يقارب نصف المتر حتي بدأ الفأس يصدر صوت أحتكاك بحجر او شيء ما صلب... إنه حجر ، يوضع كغطاء لخزانة تحت الأرض، ساعدت أحمد ورفعناه عن الحفرة.. - بذهول شديد قلت ما كل هذا يا أحمد ؟ صدقتنى يا صديقى ؟ أنا أغنى بالمال من أى أحد... عملة ورقية كثيرة مرصوصة كأنها للتو خارجة من مطابع البنك المركزي، رزم من فئة خمسين ومائة ومائتين، وسبائك ذهب تبرق وتلمع... لا أصدق ما أراه!! أهذا حلم أم حقيقة ؟! أنظر الى الحفرة تارة وأنظر الى أحمد بوجهه الشاحب تارة أخرى ، أنظر الى الفقر الذى يتربع على وجهه وجسده الموشوم بمعاناة الزمن...! - ما هذا يا أحمد ، عندما رأيتك صعب عليَ حالك، من أين حصلت على كل هذا ؟ ولماذا لا أراك فى حال أفضل من التى أنت عليها لطالما تملك كل هذا ؟ - لا تسأل يا مجيد، ولا تُشغل بالك كثيراً، الأمر لا يُهمك ولا يهم أحد غيري .. وهذه أمانة... - عندما جئت ورأيتك على هذا الحال حزنت جدا ولم أكن أتخيل هذا ابدا ، لكن عندما رأيتك تملك هذا المال والذهب كان لزاماً على أن أسأل... - أسمعني ، لا تهتم وأن كنت تريد أن تاخذ من هذا المال والذهب فخذ ما يكفيك... - لا يا أحمد، أشكرك أنا لا احتاج، أحتفظ بأموالك لنفسك، عش بها حياتك... - لا .. لا سعادة لى فيها ولا حياة .. أذهب يا صديقى وعد إلى مشاغلك وحياتك... ودعته وأخذت نفس الطريق الذى كنا نروح فيه ونرجع كل يوم حتى أقتربت من القرية هناك على جنب الطريق يقف رجل مسن يتكئ على عصاه كأنه ينتظر أحدا بلهفة لحيته طويله بيضاء وشاربه أيضا ، وعلى رأسه عمامة كبيره ملفوفة بإحكام