القصيدة| الأشياء عبد الرحمن الأبنودى لما لَمَستْها الشمس الصبح ما صِحْيِتْش مابتْهَجِتْش ما لمْعِتْش ما غَنِّتش فضلت واقفة زى الصلبان . زى المدن المدبوحة المطاطية المهزومة بعد الحرب بيوم . ما أتعس موت الأشياء والزمن ان جف ولا يصبح للأشياء ضحكة ولا روح ولا كف . بَرْد الموت يتَّاوب في الحجرات . تمشى ف بيتك بين جدران وحاجات أموات . لا الساعة تدق ولا تفِر النسمة كتابك ولا تتْبَسِّم ع الحيط ولا تفضل زعلانة الرسومات . فى شعاع الشمس الداخل م الشبابيك تِصْفَرّ وشوش الناس المحبوبة إليك اللى معلقهم حواليك . وكإن العالم مرسوم أو مطبوع وكإنه مقطوع الشريان . يدبل تحت الشمس الشمع كإنه أشياء ثابتة وجدران . كإنه جسد الغرْقان بعد الغرَقَان . وفتحت الشباك للريح لم تهتز حاجاتى ولم ترفع أجفان . ولا مِسكتنى من ديل توبى ولا ندهت بالإسم عليا زى زمان . يا ويلى من بيت الأشيا فيه مسجونة وسجان . إمتى الربيع المقتول في قيعان الوديان ..؟ إمتى الميه الحمرا الحلوة حتجرى وتتدحدر في القِنيَان ..؟ والشمس يكون لها اسم ومعنى وعنوان ؟ يملى فضا الدنيا صوت هز غصون الأغصان ..!! الأشياء ماتت الرسومات ع الجدران كرسى الشاعر والشمس الشمع حبر المعْنَى في الدِّويان . واحنا هايجين بندور زى البحر المسعور فى الرقص المجنون النور المسحور الفرحان باين كان متعلق في إيدينا خيط المر الصبر الكتان . لفينا .. لفّ . ولما انتهت الرقصة كنا في الأكفان . أكتوبر 1968 القراءة قصيدة الأشياء: إحدى قصائد ديوان (الفصول) للشاعر عبد الرحمن الأبنودي، كُتِبتْ هذه القصيدة عقب هزيمة 67 بعام ونصف تقريبا، بعد أن راحت السَّكْرَة وجاءت الفكرة؛ لذا جاءت غير مباشرة، منسلخة عن الصوت الزاعق الذي مزّق النفوس أثناء الهزيمة، جاءت القصيدة عاقلة، باحثة، وراصدة لحال الشعب في صورة مصغَّرة مُنتقاة بعناية، إنها حالة الشاعر الواعي الذي يحب وطنه بعقله كما تحرِّكه عواطفه، انصبَّت القصيدة على الأشياء المحيطة بالشاعر، والتي انتقلت من حال الحركة إلى الكمون والذبول، ورغم أنها أشياء جامدة إلا أنه استطاع أن يضفي عليها حركة كانت تأتي بها، إلى أن جاءت الهزيمة بثقلها؛ لتجثم على صدرها، مانعة إياها من الفِعل، حتى في أدق لفتاتها: كضيق الصور من أشعة الشمس، التي تحيلها إلى أوراق صفراء، لم تعد هذه الأشياء تألف صاحبها، فقد كانت كحيوان أليف يجرى عليه، أو طفل صغير يشدُّ ثيابَه، أو حميم يعايشه ينادي عليه، إنها حتى لم تعد تستجيب لفعل الهواء بها. لقد صارت في موات كامل، وقد استطاع هذا الموات أن يحتلَّ المكان بما ومَن فيه: (بَرْد الموت يتَّاوب في الحجرات)، حتى أن الرقصة الأخيرة لم تكن سوى رقصة الذبيح، الذي نسج كَفَنَه من حلمه وأمله أثناء رقصته. اعتمدت القصيدة على الصور الجزئية، التي استطاعت في النهاية أن تتكاتف؛ لتعطي صورة كلية تامة لحالة الموات، فالأشياء (فضلت واقفة زي الصلبان/ زي المدن المدبوحة المطاطية المهزومة/ بعد الحرب بيوم) ينتقل الشاعر عبْر تنويعات الوقوف والموات لامسًا أشياء هامشية ويومية، كالجدران والحجرات ودقات الساعة.. وغيرها كثير.. هذه الحالة من الموات لا تفيد في إحيائها رياح، لقد استكانت كجثة مهزومة، بل إن الصبر حَبْلٌ مفتول، لا طوق نجاة، يلتفُّ حولنا – كلما دُرنا في رقصنا المحموم – كحبل المشنقة، لذا كان لا بد من صرخة متسائلة (إمتى الربيع المقتول في قيعان الوديان؟ / إمتى الميه الحمرا الحلوة حتجري وتتدحدر في القِنيَان؟) وقد قال الكاتب الكبير يحيى حقي: "إن أفضل الأعمال هي التي كُتِبتْ لها مقدمات طويلةٌ، ثم حُذِفتْ. كما أن الإبداع يعتمد على ضِيق العبارة واتساع المعنى؛ فتركيز الكاتب على نقطة التكثيف عند تنقيح عمله بعد كتابته الأولى، ولَمّ خيوطه المبعثرة، هي العملية الأكثر مشقَّة في مشوار الكتابة، فيقول الروائي ميلان كونديرا: إن قراءته لعمله بعد أن يفرغ من الكتابة الأولى له، كالمشي حافيا على زجاج مهشم، هي عملية مضنية؛ يبتر الأديب فيها أجزاء عزيزةً عليه من جسده/ عمله الأدبي، ليحافظ على جمال هذا الجسد، خارجا به من دائرة التشوُّه. من هنا سنجد أن القصيدة – رغم انفتاحها على العادي والهامشي واليومي - عادت للسقوط في آفةٍ وُصِمَتْ بها القصيدة الستينية؛ فقد وقعت القصيدة في شَرَك الترهُّل أحيانا، حينما استرسل الشاعر في مدِّ الصورة، لكنه لم يأتِ بجديد يجعلها صورة ممتدة؛ بل كان نسخة متغيِّرة - شكلا - عن الصورة الأولى، تعطي نفس الدلالة، حتى وإن حاول أن يستند إلى مفردات وتراكيب أقوى ف (المدن المدبوحة المطاطية المهزومة بعد الحرب بيوم) كانت ستمتاز بنصاعة إذا سقطت عنها صفتا (المدبوحة المطاطية) لأنهما صفتان ملازمتان لأي مدينة مهزومة، كما أن (ما لمعتش وما غنتش) بعد (ما ابتهجتش) لما تضيفا شيئا؛ لأنهما فعلان لازمان للبهجة، يصلان للعقل بشكل بديهي لا يحتاج إلى الذكر والتوضيح. وفي (كإنه جسد الغرقان بعد الغَرَقَان) لم يضف هذا التوضيح. والأغرب أن سقوط هذه التراكيب والمفردات لن يُخِلَّ بمعنى أو وزن القصيدة، بل سيجعلها مكثفة . إلا أن هذا التمديد للصورة والإسهاب كان فاعلا ودالا في مرات أخرى، كما في (ولا يصبح للأشياء ضحكة ولا روح ولا كفّ) فللضحكة دلالة البهجة، وهي دلالة مغايرة عن دلالة الروح، وعن دلالة الكف الفاعلة. كانت محاولة لقراءة القصيدة واستنطاق معطياتها للاستفادة من تجارب السابقين علينا، ولتلافي ما قد يراه البعض – وأنا منهم – عيبًا، والتمسك بكل مزيَّة تضيف للنَّصِ وكاتبه.