وقف الرائد سمير حسنين ليودعنى خارجا من الزنزانة رقم 3 والغريب أننى حاولت التشبث به ليبقى معى فى الزنزانة لأطول فترة ممكنة.. أصبحت الوحدة هى عدوى ومصدر خوفى، رغم أننى كنت أريد قراءة المكتوب على جدران الزنزانة ولم يمضِ على خروج سمير حسنين أكثر من نصف ساعة عندما جاءنى مخبر ليقول لى: - حضرتك تستعد للخروج حالا. ولم أشأ أن أستفسر منه عن أى شىء وحتى لم أقل له إننى جاهز للخروج من عدمه، فخرج بعد أن أغلق باب الزنزانة.. ولم تمضِ دقائق حتى سمعت طرقًا على باب الزنزانة ثم فتح باب الزنزانة ليدخل طبيب يعلق السماعة على صدره وخلفه الممرض يحمل شنطة الطبيب.. وقال الطبيب: - صباح الخير يا أستاذ أحمد. ياااااه ده انا كنت نسيت الاسم ده من هول ما رأيت فى الأربع والعشرين ساعة التى مرت علىّ منذ دخولى هذا المعتقل أو هذا المكان الكئيب والمخيف فى نفس الوقت.. قلت: - صباح النور وقبل أن أسترسل فى الحديث قال : أنا الدكتور ميشيل طبيب المعتقل. قلت: - أهلا وسهلا. فقال للتمرجى: - اذهب إلى العيادة وهات الترموتر اللى نسيناه وما إن خرج الممرض حتى قال الدكتور ميشيل: البير بيسلم عليك جدا وبيقول لك هو واثق فى رجولتك وصلابتك ومكلفنى بمراعاتك وأنا ليس بوسعى سوى أن أقدم لك تغذية جيدة ووضع مريح وأرجو أن تساعدنى على هذا. قلت: - انا اساعدك طب ازاى؟ قال: نحن نتعامل مع عقليات متحجرة اظنها توقفت عن النمو فى منتصف القرن التاسع عشر تقريبا. قلت: - وما هو المطلوب منى؟ قال: - مطلوب منك ما يثبت أنك كنت تعالج قبل وجودك بالمعتقل. قلت: - انا كنت اعالج فعلا فى مستشفى المبرة بالسيدة زينب. قال بمنتهى الفرح والحيرة: - نريد ما يثبت هذا. قلت: - اذن هو الدكتور عبدالمنعم عبيد صديقى العزيز الذى كان يسهر معى فى عنبر الباطنة كل ليلة ويقرأ لى بمنتهى الحماس والجمال «الحسين ثائرا»، و«الحسين شهيدا» رائعتى عبدالرحمن الشرقاوى العظيم، وبعدما نشبع قراءة فى الشرقاوى ونجيب محفوظ ويوسف ادريس وصلاح جاهين ويحيى حقى يتحول صوت الدكتور عبدالمنعم عبيد الذى كان يجلجل مع الحسين ثائرا وشهيدا إلى همس مؤلم وهو يحكى لى ما جرى عليه وعلى رفاقه فى معتقلات العسكر، خصوصا ابو زعبل والواحات، وكان الحكى ينتهى دائما بالبكاء فيتركنى الفارس النبيل غارقا فى دموعى ولمى وينصرف هو ودموعه تغسل وجهه النحاسى الغارق فى الطيبة المصرية التى لا تدانيها طيبة أخرى.. إذن هو الدكتور عبدالمنعم عبيد اطلب منه صورة من الاشعة التى اجريت لى على قرحة المعدة (الاثنا عشر) وبعد ان دون الدكتور ميشيل هذه المعلومات ودعنى وانصرف على وعد بأن يزورنى يوميا. *** يا حبيبى يا البير أرق وأعزب وأجمل الاطباء وأوفى الاصدقاء والدكتور البير باسيلى هو جراح الفم والاسنان العبقرى الذى تطل عيادته على ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة الجميل وهو إنسان بالغ الرقة والرقى، بمجرد أن تدخل إلى عيادته تعرف من هو البير باسيلى، فأولا تستقبلك الموسيقى الهادئة المنبعثة من حيث لا تدرى لان الانغام تأتيك من السقف احيانا ومن الجدران أحيانا ومن تحت قدميك احيانا، اخرى ثم تلامس انفك بمنتهى الرقة نسمات العبير المنبعثة من قصارى الزهور المتنوعة والمنتشرة فى المكان، الى جانب حيضان الاسماك الملونة الفاتنة، ثم يبلغ المشهد قمته حين ترى الدكتور البير فى ملابس الملائكة البيضاء وهو يوزع المودة على الجالسين من خلال ابتسامة حرة كأنها أغنية شجية يرقص على ايقاعها المكان.. لقد تعلمت من ألبير الرائع كيف أحب عملى فأتقنه وكنت كلما رأيت الدكتور ألبير باسيلى وهو يعمل تذكرت الحديث النبوى الشريف: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه». **** فمضيت مع محمد عبدالمقصود إلى مكتب الاستقبال لأجد السيارة فى انتظارى إلى اين؟ لا أدرى كل ما يحدث من حولى لا ادرى لماذا حدث؟ ومنذ قدومى إلى هذا المكان المخيف وانا عبارة عن علامة استفهام، فالكل يتحركون دون أن يتبادلوا حتى الإشارة، وكأن كلا منهم عالم قائم بذاته لا يشعر بالآخرين، وكما قال امير الشعراء: وتعطلت لغة الكلام وخاطبت عيناى فى لغة الهوى عيناكى ركبت السيارة لأجد نفسى جالسا بين عملاقين لا يتكلمان أيضا، ثم توقفت السيارة امام - لا أدرى- ونزل العملاقان وأنزلانى بعدها لأجد نفسى فى مبنى تفوح منه رائحة الدولة، لا أحد يتحدث مع الآخر ولا حتى مع نفسه الكل يتحركون صامتين وكأنهم لا يعرف بعضهم بعضا! وأدخلونى حجرة بها ثلاثة مكاتب أحدها يتوسط الحجرة والآخران على جانبى الحجرة يمينا ويسارا، أجلسونى على كرسى خيزران امام المكتب الذى إلى يسار الداخل الى الحجرة وساد صمت ثقيل، ثم فجأه انتصب الرجلان فى حركة عسكرية توحى بأهمية القادم الذى وقفوا لاستقباله، كان كريه المنظر يذكرك بكفار قريش الذين يظهرون فى التليفزيون من خلال المسلسلات الدينية لم أتحرك وحتى لم أوجه ناظرى إليه فقال بشىء من الحدة: - نزل رجلك. اكتشفت اننى اضع رجلا على رجل وهذه هى جلستى العادية لكن ماعرفش ليه بادرت بإنزال رجلى بسرعة.. جلس على المكتب ليكون فى مواجهتى تماما نظرت إلى وجهه القبيح فتذكرت واقعة حدثت لاثنين من الشيوعيين المصريين فى بداية حكم العسكر الذى جاءت به حركة 1952 وكان الاثنان على موعد لمقابلة احد اعضاء مجلس قيادة الثورة، وكان هذا العضو هو المرحوم كمال رفعت، والمعروف ان كمال رفعت يحمل على كتفيه رأسا بالغ الضخامة وحين رأى احدهما هذا الرأس الضخم قال لزميله: - يانهار اسود دول باعتين لنا واحد مربى وشه،، فضحكت ضحكة خافتة سمعها ورآها الشخص الكريه، ولم يعلق عليها فقلت لنفسى: - طب والله يا ابن الوسخة لاردلك القلم قلمين انت خدتنى على خوانه لما قلتلى نزل رجلك وانا كلتها ونزلت رجلى بسرعة استنى بقى علىّ ورحت عامل صوت زى صوت العرسة واتنطرت واقف على حيلى وانا باقول: - فين الحمام فين الحمام اه يالهوى يامه.. فقال لاحد المخبرين: - وديه الحمام وخللى عنيك عليه. ولم أنتظر المخبر فوقفت باتجاه الباب وانا باقول: - الحقونى الحقونى الحقونى. فاندفع احد المخبرين فى اتجاهى وامسك بزراعى بشدة وتوتر فقلت: - سيب ايدى يابو الدبل سيب سابت مفاصلك. فقال الكريه مندهشا: - وهاتسوق لنا فى الجنان. فقلت بصوت على ايقاع سريع: - ستى مجنونة يا خالى وانا اجن من ستى يا عمى، ويبدو أنه لم يُرد الاستمرار فى هذه اللعبة ففتح أوراقه وقال: - الاسم؟ قلت: - احمد فؤاد نجم ما انتو عارفين. فقال بصبر نافد: - ترد من غير تريقة.. اسمك؟ قلت: - تانى ياحول الله ياربى. احمد فؤاد نجم يا سيدى.. قال: - سنك؟ - قلت: - هو انتو حتجوزونى ولا ايه؟! فقال بتأفف: - خلاص عرفنا إن دمك خفيف. فقلت على الفور: وانتو عارفين ابليس مخبى ابنه فين. فقال وكأنه بيكلم نفسه: - طب الحمدلله انك عارف ده كويس. قلت: - وانا من أفقر خلق الله ومافيش أى شك فى أننى منحاز للثورة إذا كانت الثورة فعلا منحازة للفقراء. فقال بضيق واضح: - هنا أنا اللى أسأل وانت تجاوب. قلت: - انا تحت أمرك. فأخرج من درج المكتب رزمة أوراق وبدأ يقرأ منها، فلمحت ورقة أنا اعرفها جيدا واعرف حكايتها التى بدأت بحضور الاستاذ الكبير محمد عودة، الكادر السياسى والكاتب الكبير فى الشئون الاجتماعية، وهو يعتبر من أقطاب اليسار المصرى، وكان المرحوم جمال عبدالناصر من أشد المعجبين بالاستاذ محمد عودة. القصد ذات صباح كنا نجلس فى حوش قدم محمد جاد ومحمد على والشيخ امام والعبد الفقير الذى هو أنا ولا فخر وسمعنا الخبط على الباب وقام محمد على ليفتح الباب وعاد ومعه الاستاذ محمد عودة مما أثار دهشتنا وقمنا لنسلم على الضيف وسط دهشتنا لحضوره فى هذا الموعد المبكر على غير العادة، وجلسنا جميعا لنستمع لما يقوله الضيف الكبير، وكنا فى هذه الأثناء ككل المصريين ننتظر خبرا واحدا وهو خبر تحرك قواتنا المسلحة باتجاه سيناءالمحتلة كما وعدنا القائد جمال عبدالناصر عقب هزيمة 5 يونيو 1967 امام القرار الشعبى الذى اتخذه شعب مصر العظيم يومى 9 و10 يونيو 1967 حين خرج الى الشوارع بعد تحطيم جيش عبدالحكيم عامر تماما وهو يزأر: «حنحارب حنحارب»، فقلب الامور رأسا على عقب، وأرغم القيادة السياسية على تغيير الترتيبات التى وضعوها وهم مكشوفون تماما، حيث كانت الخطة تقضى بإعلان شمس بدران رئيسا للجمهورية وهو من الصف الثانى لضباط يوليو، بينما يهرب ضباط الصف الاول إلى الصعيد للبدء فى تنظيم المقاومة الشعبية من هناك، ولم يقولوا لنا كيف ستزحف المقاومة الشعبية فى حال جهوزيتها من الصعيد إلى سيناء، ولكننا صدقناهم مرغمين لأن الشعب المصرى كله كان كالغريق الذى يتشبث بالقشة التى تنقذ من الغرق، لذلك كنا ننتظر من الاستاذ محمد عودة المقرب جدا من القيادة السياسية تحديد موعد بدء الهجوم المصرى على سيناءالمحتلة، لأن القائد جمال عبدالناصر قال إن «ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة»، وقد وصلت الرسالة إلى الشعب المصرى فقام على الفور بتجهيز جيوش مصر من خلال اقتصاد حرب تقبله وتحمل أعباءه بمنتهى الرضا، وحين اكتملت قوة واستعدادات الجيش المصرى بدأ الصلف الصهيونى والغطرسة الامريكية يتلاشيان ويحنل محلهما مجموعة من المبادرات السلمية رفضها جميعا جمال عبدالناصر وحين قبل المبادرة الأخيرة أثناء وجوده فى موسكو ارتفعت أصوات الرفض لأول مرة فى وجه جمال عبدالناصر، قائد الثورة ورئيس الجمهورية والقائد الاعلى للقوات المسلحة، والجديد والمدهش فى الأمر أن الرفض جاء من قلب النظام على لسان شباب مجلس الشعب وباقى أجهزة الدولة لأن منظمة الشباب الاشتراكى أفرزت مجموعة من الكوادر السياسية تحولت إلى عقبة فى طريق الثورة المضادة التى تولدت داخل جسم النظام وحين قبل جمال عبدالناصر شرط إيقاف اطلاق النار من خلال حرب الاستنزاف المجيدة ثار عليه شباب النظام لدرجة أن جمال عبدالناصر قال لأحد الشباب: - هل تتهموننى بخيانة الثورة؟ *** لم يأخذ الأستاذ الكبير محمد عودة نفسه من صعود سلم المنزل رقم 2، ففى عطفة حوش ادم حين سأله الشاعر محمد جاد الرب علىّ: - عندى إحساس بأن الاستاذ الكبير محمد عودة جايب لنا النهارده خبر ينتظره كل المصريين والعرب فأرجو أن يكون احساسى فى محله، فقال الاستاذ عودة: - خبر ايه يا اخ جاد اللى المصريين والعرب كلهم فى انتظار سماعه؟ فقال محمد جاد: - وهو فيه خبر غيره يا أستاذ عودة.. خبر تحرير الارض المحتلة. فقال الأستاذ عودة: - وهل تنتظر سماع هذا الخبر منى أنا شخصيا؟ فقال محمد جاد: - ومن غيرك يا أستاذنا؟ فقال الأستاذ عودة: - الذى يستطيع اذاعة هذا الخبر هو القيادة السياسية أو مصادر مقربة من القياده السياسية.. فقال محمد جاد. - وهل فيه مصادر أقرب منك لجمال عبدالناصر؟ فقال عودة: - يا اخوانا لازم تعرفوا إن جمال عبدالناصر بعد 5 يونيو 1967 يقود الصراع الطبقى بنفسه فصرخ محمد جاد فى وجه الاستاذ عودة: - انتو لسه حتبيعولنا الكلام ده تانى. فقال الأستاذ عودة مرتبكا: - يعنى انت يا اخ جاد مش مصدقنى؟ فقال محمد جاد: - انا عايز اعرف إذا كان القائد مهزوم وللا منتصر.. مهزوم وللا مش مهزوم؟ فقال له الاستاذ عودة: - ياريتك يا استاذ نجم تسمعنا قصيدة التحالف باعتبارها احدث قصائدك. فقال محمد جاد: - باعتبارها أحدث قصائده وللا أوجع قصائده؟ وهنا قررت أن أوقف هذا السجال الذى قد يؤدى إلى صدام لا تحمد عقباه. فبدأت أقرأ: يعيش أهل بلدى وبينهم مفيش تعارف يخلى التحالف يعيش تعيش كل طايفة من التانية خايفة وتنزل ستاير بداير وشيش لكن فى الموالد يا شعبى يا خالد بنتلم صحبة ونهتف يعيش يعيش أهل بلدى. وكان الاستاذ عودة يطلب اعاده بعض أجزاء القصيدة.. وكنت أنزل على رغبته وأعيد ما طلب إعادته حتى انتهيت من إلقاء القصيدة فصفق الأستاذ عودة ثم طلب منى كتابة القصيدة لينشرها هو بمعرفته كما قال. وبحثنا عن ورق أكتب عليه القصيدة فلم نجد.. قلت للأستاذ عودة: - عموما أنا النهارده ح اكتبها فى انتظار زيارتك القادمة لنا فأقدمها لك بكل الحب، وفوجئنا بالأستاذ عودة يقول: - ما ينفعش أنا لازم آخدها معايا وأنا نازل، وفوجئنا بمحمد على يتناول ربطة كتب تركها أحد الأصدقاء، وكانت الربطة ملفوفة فى ورق فاخر لونه كاكى مكتوب على ظهره: «المركز الثقافى السوفيتى»، وفردنا الورقة وطلب منى الأستاذ عودة كتابة القصيدة بخطى أنا ففعلت ما أراد. أقوم آجى النهارده ألاقى الورقة والقصيدة فى حيازة حسن أبو باشا، نائب رئيس المباحث العامة الشهيرة بمباحث أمن الدولة! ياه يا خسارة ياولاد ع المثقفين.. وفى هذا الشأن قال المرحوم الشاعر محمد جاد: - علشان تعرف الدولة دى غبية ازاى الكادر السياسى النادر الوجود تحوله إلى مخبر ممكن صناعة عشرات منه فى دقائق تبقى الدولة دى مجرمة وللا ضحية؟ وحين سألنى المحقق حسن أبو باشا: - يعيش أهل بلدى بتاعتك؟ - والسبب فى هذا السؤال انهم اتهمونى بكتابة قصائد لم اكتبها، وايضا بعض النكت التى انتشرت بصورة جعلت جمال عبدالناصر وهو يملك التليفزيون والإذاعة والصحافة يصرخ فى أحد خطاباته المذاعة على الهواء: - «كفاية نكت دول برضه مهما كانوا ولادنا».. وكأنه كان يلقى بالمسئولية كاملة على كاهل المقاتلين الذين قدموا عددا من الشهداء الأبرار غير معروف حتى الآن. وحين سألنى حسن أبو باشا: - يعيش أهل بلدى بتاعتك؟ قلت له: - ورينى أشوفها وحين أمسكت بالورقة تأكدت أنها هى نفس الورقة التى كتبتها فى حوش قدم وأن هذا هو خطى.. ثم أفقت على هذا المشهد. أنا ملقى على ظهرى، وأحد المخبرين يمسك برجليّ ويرفعهم، ومخبر آخر يضرب على كفوف قدمىّ وهذا رأيت وجهه جيدا ولمحت أن عينيه ملونتان ثم سمعت اسمه (محمد عيسى) وصدقونى إننى لم أفق من هذا الكابوس حتى كتابة هذه السطور.