أطول ليلة تقريبا وأسود ليلة فى حياتى هى ليلة 16 مايو 1969 بعدما دخلت زنزانة 3 وقفلوا علىّ الباب بعد حفلة الاستقبال اللى عملوها على شرفى النقيب رضا عبدالسلام وقوة المخبرين فى معتقل القلعة الرهيب، لأنه بمجرد ما قفلوا على باب الزنزانة ارتميت على الأرض وتمددت على أسفلت الحجرة واضعا شبشب الزنوبة تحت رأسى استعدادا للنوم الذى سيرحمنى من الرعب والإرهاق الذى تلبس جتتى من ساسى لراسى وما كادت عيناى تغمضان حتى سمعت طرقا على باب الزنزانة وصوتا يقول - ما تنامش فيه جماعة عايزينك فانسحب الإرهاق وحل مكانه الرعب - جماعة مين اللى عايزينى وعايزينى ليه بالضبط؟ وشيئا فشيئا انسحب الرعب من جسدى ليحل مكانه الإرهاق المميت وبدأت عيونى تغمض ثانية فسمعت نفس الطرق على باب الزنزانة وصوتا غير الصوت الأول يقول: - ياللا استعد الجماعة على وصول. فانتفضت خارجا من سلطان النوم واقعا فى بئر الرعب السحيق وظللت مشدود الأعصاب أنتظر الآتين من حيث لا أدرى حتى سلبنى الإرهاق أى قدرة على انتظار الآتى وبدأت عيونى تغمض رغما عنى فسمعت: - اوعى تنام اصحى كويس الجماعة وصلوا. فانتفضت خارجا من النوم وأنا ملقى على ظهرى على أسفلت الزنزانة وللمرة الأخيرة جاءنى الصوت من خارج الزنزانة: -اوعى تنام خلاص اهم وصلوا. فلقت له بصوت واهن: - الله يلعن أبوك على أبو الناس اللى وصلوا والناس اللى ما وصلوش. ودى كانت آخر شىء افتكرته قبل ما يفتح على باب الزنزانة لأرى شخصا بالغ الضخامة يقول لى: صباح الخير يا بيه.. اتفضل دورة الميه. وشاور لى على دورة المياه التى تبعد عن باب زنزانتى بحوالى ستين مترا وبمجرد ما خرجت من باب الزنزانة شعرت براحة ونشاط يمكن من نور الصباح الصافى ويمكن من نسيم القلعة العليل وقبل ما أصل إلى باب دورة المياه التقيت بمخبر شاب قال لى: - حمزة البسيونى فى دورة الميه.. إوعى تمد إيدك عليه! حمزة البسيونى؟ بعبع السجن الحربى الذى أذاق المصريين كل أنواع الهوان حتى أصبح مجرد ذكر اسمه يثير الفزغ فى أوصال الرجال. بمجرد دخولى من باب دورة المياه رأيته كائنا متناهيا فى الضآلة أحمر الوجه والأديم.. أبيض الشعر والشارب، وفى لحظة دخولى عليه كان يعلق قدمه اليسرى على الحوض والمياه تنزل عليها من الحنفية فأمسكت برجله المعلقة على الحوض وقلت له: -انت بتعمل إيه؟ فقال بمنتهى الفزغ: - باتوضا باتوضا. وحاول سحب رجله من يدى ولكن إيدى ماتت على رجله مش عارف ليه. وقلت له: - بتتوضا انت فاهم انك بتضحك على ربنا؟ دانت هيطلع تلاتة ديك أمك. فصرخ: - يا شويش فتوح ياعم سرحان الحقونى يا ناس. قلت له: - ولو لحقوك دلوقتى مين حيلحقك يوم القيامة يا ابن الكلب يا كافر. أتارى المخبرين واقفين يضحكوا بره دورة المياه. *** عدت من دورة المياه إلى زنزانتى رقم 3 أو رقم 2 لحد وقتنا هذا أنا مش متأكد من رقم هذه الزنزانة المخيفة التى تحولت بمرور الأيام إلى صديقة تربطنى بها علاقة حميمة تقوم أساسا على الحياة التى تصبح بها الجدران من خلال الكتابات المحفورة عليها والتى تجدد شخصيات الضيوف الذين احتوتهم هذه الزنزانة على مر الزمن فهذا مثلا ولست أبالى إذا مت مسلما على أى جنب كان فى الله مصرعى وبدون حاجة إلى البحث عن اسم المتحدث هنا تكتشف أنه من جماعة الإخوان المسلمين التى كانت تنفرد بلم شمل المناضلين الإسلاميين قبل نشوء أو بزوغ مجموعة التنظيمات الإسلامية التى انبثقت من رحم المقاومة الفلسطينية وجد عام 1948 المعروف عند المناضلين العرب بعام النكبة ثم هذا أيضا يقول غدا ترفرف الراية الحمراء على وادينا الأخضر. وأنت هنا لست بحاجة إلى بذل أى مجهود لتكتشف أن صاحبنا هذا مناضل شيوعى ولك أن تتخيل شكله وحجمه وما لاقاه من تعذيب وهوان على أيدى هؤلاء المخبرين الذين لا يعرفون طظ من سبحان الله على رأى المثل الشعبى فأحدهم مثلا وهو سيد خضير كان يعمل «منجد أفرنجى» قبل التحاقه بأمن الدولة بناء على توصية عضو مجلس الشعب الذى ساعده عم سيد خضير فى الانتخابات التى جرت فى دائرة السيدة زينب وأتت به وبأمثاله الذين جاءوا من كل حدب وصوب ليمثلوا الشعب المصرى فى البرلمان! وهذا عبدالمنعم الطبلاوى الرجل الأهطل الذى يجسد الغباء الخانق وهذا الغبى وصل إلى جهاز أمن الدولة عن طريق وبمساعدة مدام (2000 حرم اللواء 2000) الذى كان الغبى يعمل مراسله أيام الحبس عندهم وعم سرحان شيخ المخبرين فهو حكاية فريدة لا تعرف من أين أتى أو متى أتى؟ قال لى: - تقدر تقوللى كلمة عمار يا مصر دى طلعت منين وامتى. قلت له: - الكدب خيبة يا عم سرحان أنا ما أعرفش. ضحك وقال لى: - أنا بقى أعرف. قلت له: - طيب علمنى واكسب ثواب. قال لى: - أنا كنت حاضر اليوم ده وكنت لسه نفر الله يرحمك يا شاويش شوادفى. قلت له: - مين الشاويش شوادفى ده؟ قال لى: - تقول عمى تقول معلمى تقول والدى زى ما تقدر تقول قول. مرة قال لى - انت يا واد ياسرحان حتبقى رتبة فى المخروب اللى احنا فيه ده وادينى بقيت شيخ المخبرين. قلت له: - دا لازم كان بيحبك قوى يا عم سرحان. قال لى - وانا كمان كنت باحبه وكنت معجب بيه! قلت له: - بالراحة على شوية ياعم سرحان معجب بيه على أساس إيه؟ قل لى: - مش فاهم برضه. قلت له - ياعم سرحان يعنى انت لما تكون بتشتغل مع يوسف بك وهبى وتعجب بيه يصبح انك تبقى امتداد له فى السينما أو فى المسرح أو فى المسلسلات لا مؤاخذة أو كنت شغال مع عبدالوهاب أو عبدالحليم أو حتى عبده السروجى فيصبح إنك تعجب بيه وتبقى خليفته إنما عم شوادفى ده مع حفظ الألقاب انت معجب بإيه فيه؟ قال لى - آه كده فهمت. قلت له: - فهمت إيه ياعم سرحان؟ قال لى - فهمت انك بتتنأوز على شغلانتنا يعنى. قلت له: - أستغفر الله العظيم تف من بقك يا راجل أنا برضه اتنأوز على شغلانتكم؟ طب وانتو اللى حاكمين البلد أنا بس ملاحظ انك ياعم سرحان لسه بتحب عم شوادفى لحد وقتنا هذا. قال لى على الفور: - وح افضل أحبه لحد يوم الدين، مش بيقول لك (من علمنى حرفا سرت له عبدا!). قلت له: - فعلا فعلا انت أصيل ياعم سرحان.. قول بقى عبارة عمار يا مصر. ضحك فى شىء من الفخر وقال لى: - أيوه يا سيدى الكلمة دى طلعت من هنا وكنت انا موجود يومها ولولاك يا عم شوادفى كانت حصلت هنا مجزرة أو العياذ بالله الله يرحمك ياعم شوادفى ويبشبش الطوبة اللى تحت راسك. قلت له: - اسمح لى ياعم سرحان هو عم شوادفى هو اللى اخترع العبارة دى؟ ضحك وقال لى: - لا عم شوادفى الله يرحمه هو اللى فهمها. قلت له - إزاى بقى؟ قال لى: - صلى على أبو فاطنة. قلت له: -عليه أفضل الصلاة والسلام. قال لى - كان زمان إخواننا المغاربة كل سنة يطلعوا الحجاز كعابى. قلت له: - معلش ياعم سرحان ممكن تشرح لى شوية. قال لى: - ممكن قوى مش ممكن ليه كان النفر فهم يطلع السنة دى ياخدها مش يوصل الحجاز السنة الجاية يحج عقبال أملتك ويرجع بلده السنة اللى بعدها يقولوله ياحاج فكانوا أول ما يوصلوا حدود مصر المحروسة يقصدوا مقام سيدنا الحسين أو أم هاشم أو ستك فاطنة النبوية أو السيدة نفيسة العلوم رضى الله عنها فالمصريين يستقبلوهم بأهلا وسهلا ويقدموا لهم المأكل والمشرب والبياتة لحد ما يرحلوا على بر الحجاز لكن ما تعرفش إيه اللى حصل سنتها قدام مقام سيدنا الحسين راحوا قافشنهم تحرى وجابوهم على هنا. قتل له: - وجابوهم على هنا ليه ياعم سرحان؟ -قال لى: - ماهم كانوا حماية فرنساوى واحنا هنا كنا زى ماتقول المخزن بتاع سجن الأجانب بس تصدق يا أستاذ أحمد أول ما وصلوا هنا كانت حاجة زى يوم الحشر وخلوهم هنا حالهم يصعب على الكافر وكان النبتشى يومها الضابط عبدالمجيد بيه وكان فعلا راجل يعرف ربنا، فضلهم الحمام السخن، نزلوا الجلخ اللى على جتههم راقات وخرجوا من الحمام سلمناهم كل واحد بيجامة جديدة ودخلوا الزنازين لحقناهم بالفطار. قلت له: -فاكر الفطار كان إيه ياعم سرحان؟ قال لى: - هو نفس الفطار صحن الفول المتين والرغيف والبيضة المسلوقه وكباية الشاى اياها. قلت له: - دى عزومة بقى. ضحك وقال لى: - هما لهفوا العزومة من هنا وهاتك يا سريخ (عمار يا مصر عمار يا مصر) ولو مش عم شوادفى الله يرحمه كانت حتحصل هنا مجزرة والعياذ بالله. قلت له: - ليه كفى الله الشر؟ قال لى: - ماهو صريخهم كان صريخ مجانين لولا عم شوادفى الله يرحمه هو اللى قال لنا: - ما تخافوش ما تخافوش دول بيقولوا (عمار يا مصر) شفت بقى ياعم أحمد؟ قلت لهك - شفت ياعم سرحان. ضح وقال لى: - وياما لسه تشوف. *** موسى نبى عيسى نبى محمد نبى وكل وقت وله أدان وكل عصر وله نبى وكل من له نبى يصلى عليه، اللهم صلّ وسلم وبارك عليك يا حبيبى يا محمد يا رسول الرحمة للعالمين أنا بعدما خرجت من دورة الميه على أثر ما حدث منى لحمزة البسيونى بعبع السجن الحربى اللى ذاع صيته وانتشر بين المصريين جنبا إلى جنب مع صيت صلاح نصر مدير المخابرات اللى اقتحم غرفة نوم المصريين وهتك أعراض الحرائر، وأذل كبرياء الرجال وروع الأطفال قبل أن يبلغوا الحلم، لعنة الله عليهما معا صلاح نصر وحمزة البسيونى، ووصلت إلى باب زنزانتى وحين دخلت اكتشفت أننى دخلت زنزانة أخرى بالخطأ فرجعت بظهرى إلى خارج الزنزانة وأنا أحاول الاعتذار ولكن لا أعرف لمن لأن الزنزانة التى دخلتها خطأ كانت خالية من البشر وحين رآنى المخبر محمد عبدالمقصود خارجا من الزنزانة بظهرى ضحك قائلا: - فيه إيه؟ قلت: - أنا آسف أنا دخلت زنزانة تانية. فقال وهو يبتسم ابتسامة عريضة: -هى دى زنزانتك اتفضل خش. قلت: - لعبة جديدة دى؟ قال: - مش فاهم. قلت - بالليل بتنيمونى فارش ومتغطى بالرعب والصبح أصحى على صباح الخير يابيه. فقال: - لأ النوبة دى بجد دى زنزانة حضرتك. قلت: - حضرتى كده مرة واحدة. ودخلنا الزنزانة رقم 3 التى كانت بالأمس قاعا صفصفا لا أجد سريرا مفروشا بملاءة بيضاء نظيفة ومخدة داخل كيس أبيض نظيف وبجوارها ترابيزة صغيرة عليها كتاب ضخم وأمامها كرسى خيزران وقبل أن أفكر فى السرعة التى تم بها تغيير الوضع جاءنى صوت محمد عبدالمقصود: - دلوقتى حيجى لسيادتك الفطار والشاى بالهنا والشفا عشان جاء لك ضيف مهم. فصرخت فى وجهه: - تانى! فقال: - لا المرة دى بجد. وتركنى وخرج وكان أول ما فعلته هو قراءة ما على جلدة الكتاب الضخم ووجدته تفسير الطبرى وهو من أمهات الكتب الإسلامية. قلت فى عقل بالى: - إنهم يتعاملون معى على أساس أننى كادر شيوعى وهذا لا يزعجنى لأننى لا أرفض أن أكون شيوعيا إذا ما قرأت النظرية التى اعتقدها وقدمها كارل ماركس على أنها الحل الأمثل لمشاكل الظلم الاجتماعى والصراع الطبقى. *** بعد تناولى الإفطار مباشرة سمعت طرقا على الباب فقلت: - ادخل. وفعلا دخل من باب الزنزانة شاب وسيم ومد يده يصافحنى وهو يقول: - رائد مباحث أمن دولة سمير حسنين. فقلت وأنا أصافحه: - معتقل مباحث أمن دولة أحمد فؤاد نجم. فضحك قائلا: - وهل يخفى القمر؟ - قلت: - أشكرك على كل حال. فسحب الكرسى بحيث قربه من جلستى على السرير وجلس. قلت: -أهلا وسهلا بالحكومة. فقال: - قرأت قصيدتك التى تصنفنا فيها بالكلاب. قلت: - طبعا ما عجبكش الكلام. فضحك قائلا: - أكيد ومعرفش ليه ارتحت له قلت: - طبعا أنا لا أطمع فى أن تنال القصيدة رضاك قال: - ما يهمنى الآن أن تعرف أننى لست كلب صيد أو حراسة للحاكم لأن قناعتى الشخصية هى أننى أعمل فى هذا الجهاز لخدمة وطنى وحمايته قلت: - حمايته حتى من الشعر؟ قال: - أظنك تعرف أن القيادة السياسية فى قمة غضبها مما تكتب أنت ويغنى الشيخ إمام قلت: - وأنا أرجو أن تعرف أننى كتبت ما كتبت وأنا فى قمة الغضب من القائد الذى صدقته وراهنت عليه أميرا للفقراء وحارسا للمظلومين. صمت لحظة ثم قال: - لا أنصحك بأن تقول هذا الكلام فى التحقيق. قلت: - هل صدقتنى فيها؟ قال على الفور: - مئة بالمئة لدرجة أننى أحببتك. قلت: - بصرة وأنا أيضا أحببتك بمجرد أن رأيتك. أحمد فؤاد نجم