تحول واجبٌ مدرسي قررته معلمة في مدرسة ابتدائية بولاية كولورادو الأمريكية إلى خبر تناقلته وسائل الإعلام في أمريكا وخارجها. أغلب طلاب تلك المدرسة من أبناء الطبقة الفقيرة، ويحصلون على وجبة الغداء في المدرسة بسعر مخفض أو مجاناً، ولذا شعرت المعلمة "كايل شوارتز" أن ما تجهله عن تلاميذها أكبر بكثير مما تعلمه، وفكرت أن تجعلهم يتكلمون عن أنفسهم دون أن يكشفوا عن هويتهم، فطلبت من كل تلميذ في الصف الثالث لديها أن يكمل الجملة التالية: "أود لو أن معلمتي عرفت أنني...." دون أن يكتبوا أسماءهم. وحين قرأت "شوارتز" ما كتبوا أدركت أنها كانت تحتاج أن تعرف هؤلاء الصغار على النحو الذي كشفته كلماتهم البريئة العميقة. إحدى التلميذات قالت: "وددت لو أن معلمتي تعرف أنني ليس لدي أصحاب ألعب معهم." في اليوم التالي استطاعت المعلمة أن تجعل تلك التلميذة وسط مجموعة يشاركونها اللعب. كتب تلميذ آخر: "وددت لو عرفت معلمتي أن ليس لدي في البيت قلم أحل به الواجب،" وقال آخر: "ليت معلمتي تعلم أنني لا أحصل على توقيع أمي على واجباتي لأنها مشغولة ولا أراها." وعبر تلميذ عن أنه يفتقد أباه الذي تم ترحيله إلى كوبا ولم يره من سنين. أخذت المعلمة الجملة التي يكملها التلاميذ إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولت إلى هاشتاج تفاعل معه الآف التلاميذ، ليكتب أحدهم "أتمنى لو تطلب معلمتي من زملائي أن يكفوا عن السخرية مني بسبب إعاقتي" ويكتب آخر "أنا قلق لأن امي مريضة." ليتحول ذلك الواجب إلى حديث يشارك فيه آخرون عبر الحدود. الفكرة على بساطتها تعبر عن فلسفة للتعليم الفعال الذي يركز على الطالب أكثر من تركيزه على المعلم والمنهج، وهي فلسفة لا يمكن أن تنجح إلا في ثقافة قائمة على الحرية واحترام الإنسان مهما كان صغيراً أو بسيطاً، وهي تختلف تماماً عن الفلسفة التي تعتبر التلميذ لوحاً أبيض يمكن أن يُكتب عليه أي شيئ، وتري أن التلميذ يجب أن يتكلم حتى يتعلم، ومن بعدها يصبح المجتمع قادراً على أن يتقدم، فالمعلومات في حد ذاتها لا تعني شيئاً بدون عقل فاهم ناقد، وحتى يكون التلميذ قادراً على الكلام يجب أن يكون المعلم مؤهلاً للاستماع، وهو أمرٌ ليس بالسهل، لأن الاستماع يكاد يكون أصعب من الكلام، وتستطيع أن تجري اختباراً صغيراً لتعلم أنك لا تستمع للآخرين ولكن لصوت عقلك عندما يتكلمون، أما إن كنت تقاطع من يكلمك فأنت لديك مشكلة كبيرة. المعلم الذي لا يعرف تلاميذه ولا يفهم ظروفهم ومشاعرهم وطريقتهم في التعبير عما يعتقدون فيه، يعطي معلومات ولا يقدم تعليماً، والنتيجة أننا نخرج ضعفاء في الكلام وفاشلين في الاستماع، نرفض الاستماع لمن هم دوننا ونتهيب من الحوار مع من هم فوقنا، ليصاب واقعنا بالجمود، لأننا مهمومون بإبقاء علاقات القوة كما هي، ونتعب كثيراً إن رأينا تلك التراتبية التي نشأنا عليها تتبدل، فنتعجب "ازاي الواد أبن أمبارح ده مش عاجبه؟ دا القوالب نامت والانصاص قامت! أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة"
لا تقلق على القوالب، ولا تعبأ بالأنصاص، فليبق كلٌ في مكانه، لأن التغيير محال على يد من كان معلموهم أباطرة يتحدثون ولا يستمعون، ويُملون ولا يتناقشون (ليست صدفة أن كلمة ديكتاتور أصلها فعل الإملاء Dictate). لم تكن "شوارتز" تحاول أن تخترع نظرية جديدة في التعليم، بل كانت تبحث عن فكرة جديدة لتطبق نظرية قائمة على التفاعل ورافضة للتلقين، نظرية مُرحِبة بكل الآراء، حتى وإن لم تعجبنا. ربما لم يدر بخلدها أن هناك معلمين في مكان آخر في هذا الكوكب لا يعلمون أي شيئ عن طلابهم ولا يهمهم أن يعلموا، ومستعدون لإسكات الآخر حتى لو استدعى الأمر أن يحرقوا كتبهم وهم يحملون علم الوطن! ربما لن تفهم "شوارتز" نظريات التعليم التي تري أن حرق كتب من خالفونا يعد من حب الوطن، وهي السُنة التى أستنها الطلاب النازيون عندما جمعوا كتب "هيجو" و"ماركس" و"داروين" وغيرهم وأحرقوها وهم يرددون النشيد الوطني في وقت اجتاحت فيه حمى الوطنية ألمانيا، وقالوا لايهم العلم بل المهم حب الوطن، لتهاجر خيرة عقول ألمانيا مثل "أينشتاين" وعشرين من الحاصلين على "نوبل" وتفقد الجامعات الألمانية 10٪ من أساتذتها تحت حكم هتلر الذي لم يكن قد أكمل تعليمه، وبعدها كانت النهاية المذلة والانكسار والاحتلال. يقول الشاعر الألماني هاينريش هاينه -الذي مات عام 1856- "أينما أُحرقت الكتب، فمصير البشر الحرق أيضاً." إن لم يُحرقوا مادياً، فهم يُحرقون معنوياً، حيث لا يكون لأفكارهم وجود، وتُفرض على خيالهم الحدود، ويكسو حياتهم الركود، فلا يتقدمون بل يدورون حول أنفسهم، لتحترق حياتهم في العبث، ويرث عبثهم مَن بعدهم وبعد بعدهم، وياليل طول وهات العمر م الأول! من العدد المطبوع من العدد المطبوع