من أبرز الجهود الأكاديمية المبذولة في هذا الصدد، هي تلك الخاصة بالدكتورة أميرة العباسي- رحمها الله- والتي كانت متخصصة في مجال إدارة المؤسسات الصحفية في كلية الاعلام بجامعة القاهرة، ومن اهم الاوراق التي أعدتها بشان أوضاع المؤسسات الصحفية القومية، كانت تلك التي طرحتها في المؤتمر الرابع لنقابة الصحفيين عام 2004، وتقوم فيها بتقديم رؤية "تشخيصية تقويمية" لأوضاع -أو بتعبيرها- "أوجاع" الصحافة القومية، ولابد من الاشارة إلي أن هناك أوراقاً قدمت في المؤتمرات الثلاث السابقة في نفس الصدد لمحمود المراغي، وصلاح الدين حافظ، وعزت سامي، وعبد الحميد حمروش. علي رأس المآخذ التي أشارت لها د. اميرة هو المصطلح "الغامض" الذي يصف هذه الصحف وهو "القومية"، واذا تم افتراض أنها تعني التعبير عن الشعب، وعرض آراء وأفكار كل القوي الفاعلة في المجتمع بصرف النظر عن توجهاتهم، فإن العديد من الدراسات التي اهتمت بتحليل مضمون هذه الصحف في فترات تاريخية مختلفة، توصلت إلي أن واقع الممارسة الصحفية يثبت عكس ذلك. المأخذ الثاني هو الفجوة القائمة بين "المالك القانوني" و "المالك الفعلي" لتلك المؤسسات، فالممارسات العملية لهذا الأخير، ساهمت في تحجيم وإضعاف دور المالك "الأصلي القانوني " في المتابعة والرقابة، مما خلق مشكلات إدارية كبيرة. تشخيص تشخص ورقة د. اميرة مشاكل تلك المؤسسات في تصاعد نفوذ نمط الإدارة "المركزية" "الفردية" فتوجه وتدار من خلال الرئيس الفرد، سواء كان رئيس مجلس الإدارة أو رئيس التحرير ومع تخلي المالك القانوني عن ممارسة سلطاته الإدارية تجاه هذه المؤسسات، والاكتفاء بتعيين هذا الرئيس، تحول الأخير إلي "مالك فعلي"، ويتم اختيار هذا الرئيس وفقا للمعايير السياسية والأمنية والولاء للسلطة الحاكمة بدلا من اعتبارات الكفاءة والخبرة المهنية والمهارات القيادية. يضاف إلي ذلك غياب آليات فعلية لمحاسبة القيادات الإدارية للمؤسسة الصحفية القومية التي يثبت فشلها أو عدم صلاحيتها إدارياً،كما تغيب مظاهر ممارسة الديمقراطية الداخلية في معظم تلك المؤسسات، خاصة فيما يتعلق بمشاركة المحررين في صنع القرارات التحريرية المؤثرة، فتقول د. اميرة في ورقتها " رغم استحداث القانون السابق 148 لسنة 1980 - ولأول مرة في تاريخ الصحافة المصرية - "لمجلس التحرير" كهيئة يتحتم وجودها داخل المؤسسة الصحفية القومية، منوط بها رسم السياسة التحريرية بدلاً من أن يستقل بها رئيس التحرير، فإن أسلوب تشكيل هذا المجلس - كما قررته اللائحة التنفيذية للقانون- ولم يختلف الأمر في أحكام القانون الحالي (96) - قد حال دون أن ينتج أثره الإيجابي في تحقيق هذا الهدف. فرئاسة المجلس وعضويته تتم كلها بالتعيين وليس بالانتخاب سواء من قبل مجلس الشوري أو مجلس إدارة المؤسسة، نفس الامر فيما يتعلق بالتشكيلات الإدارية الثلاث المسئولة عن تسيير شئون المؤسسة الصحفية القومية إدارياً ومالياً وتحريرياً وهي : مجلس الإدارة - الجمعية العمومية - مجلس التحرير، فالقواعد التي تتشكل وفقاً لها هذه الهيئات تغلب أسلوب التعيين علي أسلوب الانتخاب،مما أضفي الطابع الحكومي أو شبه الرسمي علي المراكز القيادية". الورقة لفتت أيضا إلي "الإهدار المالي والإداري الناتج عن عدم التنسيق بين المؤسسات الصحفية القومية - خاصة الكبيرة منها -، فيما يتعلق بالقرارات الاستثمارية كتحديث المقرات والمطابع والآلات وأصبح مفهوم المنافسة يدور حول من يشتري مطابع أضخم، ومن يبني الأبراج الأعلي، وليس من الذي يطور الأداء المهني أو الكادر البشري. وبالطبع كان لتلك الاوضاع تأثيراتها السلبية علي بيئة العمل الصحفي وعلاقات العمل، أهمها: الحد من أي جماعة من المحررين تبدي استعدادها للانحراف عن خط الجريدة، بخلق مجموعة ولاء بديلة أو ما يسمي "الشللية" أو "أهل الحظوة"، وتلك الاخيرة تنال الترقيات والعلاوات والمزايا دون مبرر موضوعي واضح، فيصبح الخضوع لمعايير سياسة الجريدة وتوجهات الرؤساء، هو السبيل للترقي،وأصبح الصحفي في هذه المؤسسات يملك قدرا كبيرا من الرقابة الذاتية علي عمله قد يصل به إلي أن يكون "ملكياً أكثر من الملك" مما أثر علي مستوي الأداء المهني، وكنتيجة، ترتفع نسبة الاحساس بعدم الرضا الوظيفي، وعدم الاستقلال المهني، وعلي مستوي الرؤساء أصبح الحرص علي رضاء المسئولين في الأجهزة التنفيذية ومعرفة آرائهم فيما ينشر في صحيفتهم هو المعيار. مظهر سلبي آخر رصدته د. اميرة وهو ظاهرة البطالة المقنعة بين الصحفيين في كثير من المؤسسات القومية، خاصة مع عجز إدارات هذه المؤسسات عن توظيف العمالة الزائدة، وعجز إصداراتها الجديدة عن استيعابها .. الأمر الذي يلقي علي عاتق الإدارة بأعباء مالية تفوق طاقاتها تجاه عمالة لا تقدم قيمة مضافة حقيقية. يأخذنا ذلك إلي مشاكل التمويل، وفي هذا الصدد تشير الورقة إلي ان الصحافة القومية هي أول من تخطي الحدود الفاصلة بين التحرير والإعلان، "فاخترعت" منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي صيغة إصدار الصفحات الإعلانية المتخصصة تحمل أسماء القطاع الإعلاني الذي تغطي نشاطه، وتروج لمنتجاته أو خدماته، وتوظف كل أشكال الإعلان خاصة التحريري - وهو الأخطر - لتوصيل رسالته، دون أن تشير للقارئ صراحة أنها صفحات إعلانية أو مدفوعة الأجر، ومن المعروف تعارض ذلك مع ميثاق الشرف الصحفي لما يحمله من إفساد للصحافة والصحفيين، ومن المعروف ان بعض الوزارات والهيئات الحكومية تقوم بشراء صفحات كاملة هي التي تحررها وتنشر فيها ما تشاء من أخبار وموضوعات موجهة . ملامح وآفاق التطوير ظهر تياران رئيسيان فيما يتعلق بكيفية تطوير أوضاع تلك المؤسسات وهما: تيار يكتفي بتطوير هذه الأوضاع مع الإبقاء علي المميزات التي يوفرها الوضع الراهن، وتيار آخر يري ضرورة التغيير جذرياً، ويطالب بتطبيق سياسة الخصخصة - خاصة الخاسرة منها - أسوة بمؤسسات القطاع العام الأخري. ينطلق التيار الاول من ضرورة وجود صحافة قومية، بشرط أن تعبر عما يمكن تسميته "الاتفاق علي المصالح الوطنية"، وأن تدير الحوار بين قوي المجتمع علي صفحاتها، وتفسح مجالاً أكبر للتعددية والتنوع، وهو أمر ممكن، وان الوضع الحالي بكل مساوئه، أفضل - في رأيه - من مساوئ الخصخصة، ومخاطرها علي المهنة والعاملين بها. يري أصحاب هذا التيار أن التطوير يمكن أن يتم من خلال الفصل بين الملكية والإدارة، وإنهاء صيغة التبعية الحالية بين الدولة والصحافة القومية، والبحث عن صيغ أخري - بخلاف صيغة الخصخصة - توائم بين الملكية العامة، والحرية، والاستقلال المهني، مثل نمط ملكية العاملين بالصحيفة : وكان نمط ملكية "لوموند" الفرنسية هو النموذج. الصيغة الثانية أن تتملك الدولة المؤسسات الصحفية القومية بالكامل، ويشترك المحررون داخل كل مؤسسة مع المالك أو من يمثله في اختيار كل من رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة، فيمتلك المحررون نسبة 50% من الأصوات، والدولة ال50% الأخري.. أي يتقاسم المحررون والدولة إدارة هذه المؤسسات. الصيغة الثالثة هي الملكية المشتركة بين الدولة والعاملين في المؤسسات الصحفية القومية حيث يمتلك العاملون نسبة 51% من رأسمال المؤسسة، وتظل النسبة الباقية مملوكة للدولة. وأن يختار العاملون بالمؤسسة الصحفية القومية مجلس الإدارة الذي يمثلهم بالانتخاب المباشر، وكذلك الجمعية العمومية، ومجلس التحرير. الصيغة الرابعة هي تملك العاملين للمؤسسة الصحفية القومية التي يعملون بها بالكامل في صيغة شركات مساهمة، يمتلك العاملون أسهمها، وتكون هذه الأسهم اسمية ولا تورث، مع تحويل سلطة إدارتها لمجلس إدارة منتخب، تحت رقابة جمعية عمومية منتخبة أيضا. وهناك صيغة الملكية التعاونية، وإما أن تكون ملكية كاملة التعاونية، بمعني أن تطرح أسهمها علي الشعب للمشاركة فيها، أو تكون ملكية تعاونية مشتركة، بحيث يمتلك العاملون في هذه الصحف 50% من اسهمها، وتطرح النسبة الباقية للشعب. والصورة الثالثة أن تساهم الحكومة في الملكية بنسبة 30%، والعاملون بالصحف بنسبة 30% أيضا، وتطرح النسبة الباقية 40% للشعب . وأخيرا إنشاء شركة قابضة للصحف القومية، وتخضع المؤسسات الصحفية القومية القائمة لسيطرة هذه الشركة مالياً وإدراياً وتحريرياً، من خلال تشكيل "مجلس إدارة"، يعين فيه ممثلون من هذه المؤسسات، بالإضافة إلي عدد من الخبراء الاقتصاديين والإعلاميين، بحيث تقوم الشركة من خلال "مجلس المديرين" بتقويم أداء هذه المؤسسات. في المقابل يري التيار المناصر للخصخصة ان الأصل في الملكية الصحفية هو الملكية الخاصة، ولابد من عودة هذه الصحف مرة أخري لتصبح ملكية خاصة، ولابد من إتاحة الفرصة لفئة جديدة من المديرين غير المالكين Non-Owner Managers لإدارة المشروع الصحفي بأهداف جديدة تؤدي إلي فورات اقتصادية، وجذب مزيد من الاستثمارات بما يؤدي إلي تحسين الخدمة الصحفية، مع وضع الضوابط القانونية خاصة فيما يتعلق بجنسية المالك وقوانين منع الاحتكار الصحفي، وحقوق العاملين، وعلاقات العمل. د. محرز غالي-المدرس بقسم الصحافة بكلية الاعلام بجامعة القاهرة والمتخصص في مجال إدارة المؤسسات الصحفية، فسر لنا بعض النقاط السابقة،فيقول "ربما يكون من ابرز الحلول الناجعة للتخلص من مشاكل المؤسسات القومية هو أن تشكل الهيئات التنظيمية بالانتخاب وليس بالتعيين، ففي القانون الحالي (96 لسنة 1996) يتم تعيين 7 من اعضاء مجلس الادارة من بينهم رئيس المجلس، بينما يتم انتخاب الستة الباقين، أي أن الغلبة للمعينين، ومعروف ان تعيين هؤلاء لا يخضع لاعتبارات الكفاءة المهنية، نفس الامر بالنسبة للجمعيات العمومية، حيث يتم تعيين 20، وانتخاب 15، اما مجلس التحرير فكله بالتعيين وهو المسئول عن رسم السياسات والتوجهات التحريرية للصحيفة، ولهذا يجب ان ترفع الدولة أيديها عن تلك المؤسسات بحيث تكون هيئاتها التنظيمية الداخلية كلها بالانتخاب ولا دخل للقيادة السياسية في تشكيلها، بما فيها رئيس مجلس الادارة ورئيس التحرير، ولتكن لفترة دورتين كل دورة مدتها4 سنوات. ويري د. محرز ان نمط الملكية التعاونية قابل للتحقق ويحبذها فيقول" سيكون هناك ملاك آخرون، ولابد أن نعلم ان تلك الصحف رغم انها تفتقد الان للمصداقية، فهي مازالت تحظي بارتباط نفسي بينها وبين القارئ، بحكم العلاقة التاريخية، واذا طرحت أسهمها في البورصة ستحظي بإقبال، ولا بد ان نعلم ان تلك المؤسسات تحقق أرباحا كبيرة لكن المشكلة في عدم الرقابة واهدار الموارد، ولو قامت تلك الصحف بعمل تطوير في الجانب التحريري وعبرت عن الرأي العام ستكتسح السوق الصحفية. وعن مفهوم الاعلام "القومي" وما إذا كان له وجود في العالم، يؤكد محرز أنه لم يعد هناك ما يسمي بالاعلام القومي أو الحزبي، فالصحف الحزبية ماتت في العالم كله، لانها تتنافي مع المهنية، لكن مايحدث هو ان صحفا أو قنوات تليفزيونية تتبني التعبير عن تيار سياسي او فكري او ايديولوجي معين، وهو ما كان موجودا في مصر قبل الثورة، فهناك صحف كانت تنحاز لحزب الوفد، واخري تميل للقصر وتنحاز للسلطة وهذا طبيعي أن يكون هناك مصالح متبادلة، وأخري ميولها اشتراكية وهكذا، ونحن نتفهم ان يكون للدولة قناة رسمية أو حتي قناتين تعبر عنها، لكن لابد ان يكون لها عشر قنوات وان تحتكر البث الارضي، ولا ان تضع القيود علي تملك الصحف، فتملك سلطة اصدار التراخيص لمن تشاء، وتمنعها عمن تشاء، بدلا من الصيغة المعمول بها في الدول المتقدمة وهي الاخطار. تجربة ويحكي د. محرز عن تجربة للتخلص من فكرة سيطرة الدولة علي الاعلام علي مستوي الادارة، والتجربة لم تستمر سوي 6 أشهر! فيقول" في عام 1971 كان هناك محاولة لفصل الادارة عن الملكية فيما يتعلق بطريقة ادارة اتحاد الاذاعة والتليفزيون، بحيث يدير الاتحاد مجلس مديرين يتم انتخابه علي اساس الكفاءة والخبرة المهنية، ويبلغ وزير الاعلام بقرارات المجلس فقط لاغير، لكن تم الطعن علي قانون تشكيل هذا المجلس أمام القضاء الاداري من قبل وزارة الاعلام، بحجة ان القانون وهو 1 لسنة 1971 لم يعرض علي مجلس الشوري، وتم بالفعل اصدار قانون جديد هو المعمول به حاليا، حيث استشعرت الدولة بالخوف عندما وجدت ان الإعلام بدا يتحرر من سلطتها ويحيد عن توجهاتها وآرائها. في نهاية حديثه يعتقد د. محرز أن الدولة غير جادة في تطويراوضاع هذه المؤسسات لأنها مستفيدة من الوضع القائم، رغم انها من وقت لاخر تقوم بتشكيل اللجان لبحث مشاكل تلك المؤسسات، فمنذ الثمانينات أي اكثر منذ 20 سنة تم تكليف د. عاطف عبيد بصفته خبير اقتصادي لبحث أوضاع تلك المؤسسات، وكان هناك لجنة اخري برئاسة د. علي لطفي رئيس وزراء مصر الأسبق وهي التي انتهت إلي قرار الدمج الذي تم بصورة غير سليمة ولم يحقق الهدف منه، لأن المؤسسات التي تم الدمج اليها لم تستفد بأصول المؤسسات المدمجة، فتحملت عبء الصحفيين، ولم تحصل علي ميزة في المقابل".