مرت منذ أيام الذكري السابعة والخمسون لرحيل الرومانسي الكبير الشاعر الطبيب الدكتور إبراهيم ناجي الذي لقي ربه في الرابع والعشرين من شهر مارس عام 1953. وكلما مرت السنوات ازداد تألصقه والحنين إلي شعره والطرب بهذا النغم العذب الذي يصدر عن كلماته. ولد إبراهيم ناجي في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر من عام 1898. لأسرة متوسطة تهتم بالثقافة والقراءة ورغم دراسة الطب فقد تركز شغفه علي قراءة الأدب بشعره ونثره. وكان اتقانه للغة الإنجليزية مدخلاً إلي تفتح وعيه وتغذية قريحته بالروائع من الآداب الأجنبية، جاء تكوينه النفسي والبدني مرهفاً شديد الحساسية قريباً من مواطن الجمال في الطبيعة والمرأة علي وجه الخصوص كما دفعته طبيعته الإنسانية إلي التعاطف مع البسطاء والمعذبين والفقراء والكادحين. مفتاح الفردوس كان مثالياً يهفو إلي عالم من الطهر والنقاء والكمال الإنساني والبهاء العاطفي. عاش يحلم بالسعادة وظن أن المرأة وحدها هي التي تملك مفتاح الفردوس علي الأرض ومن هنا تعلق بكل امرأة جميلة ورسم له خياله صورا بعيدة عن الواقع فكان كلما اقترب من واحدة من الجميلات مفترضاً أن الجمال لابد وأن يكتمل بالوفاء والإخلاص والحنان والرقة والعطاء سرعان ما يصدمه الواقع ليجد في المرأة كائناً إنسانياً يحمل كل خصائص البشر وليس خصائص الملائكة التي يبحث عنها الشاعر إبراهيم ناجي ولأن هذه الصدمات كانت عديدة ومتعاقبة تركت الكثير من الكدمات والجراح وامتلأ وجدانه الحساس بالأسي والحزن اللذين ظهرا في شعره وكأنه جزء من طبيعة ناجي الإنسانية وليست اكتسابا بسبب فشل تجاربه العاطفية المثالية التي شحنها الخيال وحطمها الواقع. امتلأ شعر ناجي بالأسي والحزن ولكن هذا الأسي لم يدفعنا إلي الضيق بهذا الحزن الذي يقترب من اليأس والعدمية فقد جاد شعره مذدانا بالجمال الفني الذي تمثل في الإيقاع المطرب والألفاظ العذبة المنتقاة والخيال القريب المأخذ والصور الشعرية الجديدة المبتكرة البديعة والاقتراب الدائم من مصادر الجمال في الطبيعة والأشجار والأزهار والأنهار والبحار والنجوم والأقمار. مثالية مطلقة وعاش ناجي في الفردوس الخيالي الذي صنعه لنفسه ورفض كل ما سواه. كان من الطبيعي أن تقوده هذه المثالية المطلقة إلي لون من السراب حيث لا يمكن الإمساك بحقيقة واقعية للمرأة أو للجمال أو للحب.. وقد جسد إبراهيم ناجي هذا السراب الذي انتهت إليه مثاليته كما تتجلي في ديوانه «ليالي القاهرة» وهو الديوان الثاني للشاعر وقدم لهذا الديوان إبراهيم الدسوقي أباظة باشا حيث ألمح إلي سمات شعره فقال «إنك لتلمح في قصائده ومقطوعاته أثرا ملحوظاً جاء وليد القراءات الواسعة التي بصرته بمذاهب التجديد والابتكار. فهو حين يكتب يتطلع إلي الأجواء العالية.. التي حلق فيها شعراء الغرب محتفظاً بذاتيته ولونه الخاص وطبيعة الشرقي المصري فقد وصف الحياة كما هي في الشارع والمرقص ومشاهد الطبيعة وفي هذا خروج بالشعر عن دائرته الكلاسيكية المتحفظة إلي الشعب. وأن الخصائص واللمسات التي يتميز بها هذا الديوان من الإيماء عن المعني بالصورة والإيماء عن الصورة بالرمز ووحدة القصيدة. واعتمادها علي الجرس الموسيقي لتبدو فوق المعاني الخلابة العميقة واضحة جلية في قصائد «ليالي القاهرة» و«الأطلال» و«السراب» ففيها خوالج نفسية صادقة وانطباعات ذهنية ولمحات فنية ومعرفة دقيقة بأسرار النفس ومكونات الوجدان. مواهب شعرية ان موقف الشاعر ناجي من الحياة موقف خيالي مثالي ولكن الذي أنقذ هذا الموقف من الخواء هو التعبير الشعري العميق الذي ترك أثراً واسعاً في شعر معاصريه والذين ساروا علي نهجه إعجابا واقتناعاً لقد تبدي أثر ناجي في شعر كثير من الشعراء الذين أحاطوا به والذين جاءوا بعده خاصة بعد أن تغنت أم كلثوم برائعته «الأطلال». في شعر ناجي خصائص كثيرة وكلها تخصه ومن هنا مارس هذا الشعر تأثيره في مواهب شعرية جاءت بعده لقد كتب عن السراب وكأنه في واقع الأمر يكتب عن حصاد الهشيم الذي جناه بعد كثير من المعاناة فقد كتب ثلاث قصائد جمعها تحت عنوان.. «ملحمة السراب» وتحمل القصائد هذه العناوين «السراب في الصحراء، والسراب علي البحر، السراب في السجن» وهي كلها تعبر عن رؤيته لحياته ومعاناته وأقداره، إن ناجي يبسط في قصائده تفاصيل تجاربه التي تبدأ عادة بالشغف والإعجاب اللذين يفضيان إلي العشق واللهفة ثم يحدث التحول حيث الإخفاق والفشل الدائم في هذه التجارب في قصيدة السراب في الصحراء يصور الشاعر هذا السراب الذي لا يروي ظمأ الحياري في صحراء مجدبة موحشة وكأنه يطالعنا في البداية بما يشبه التعليق علي ما انتهت إليه التجربة فيقول: - السراب الخؤون والصحراء والحياري المشردون الظماء وليالي في إثرهن ليال سنة أقفرت وأخري خلاء قل زادي بها وشح الماء وتولي الرفاق والخلصاء أفق موحش ثم يتحدث إلي المحبوبة مناشداً إياها أن تدرك زورقه لإنقاذه من الغرق فيقول إبراهيم ناجي: - أدركي زورقي فقد عبث اليم به والعواصف الهوجاء والعباب العريض والأفق الموحش واللا نهاية الخرساء أفق لا يحد للعين قد ضاق فأمسي والسجن هذا الفضاء بعد أن بسط الشاعر مهاد التجربة ينتقل إلي جوهرها الحقيقي وأحداثها فيقول: - التقينا كما التقي بعد تطواف علي القفر في السرَّي أنضاء قطعوا شوطهم علي الدم والشوك وراحوا علي اللهيب وجاءوا كما أناديك في التنائي فترتد بلا مغنم لي الأصداء وأناديك في دمائي فتنساب علي حسرة لدي الدماء وأناديك في التداني وما أطمح إلا أن يستجاب النداء باسمك العذب إنه أجمل الأسماء مهما تعددت أسماءُ لقطة لا تبين تنطلق الأقدار عن قوسها ويرمي الفضاء ثم يلخص الموقف كله فيقول عن اسمها الذي هو مجرد لفظة: وهي بين الشفاة ناي وتغريد وطير وروضة غناء وهي في الطرس قصة تذكر الأحباب فيها وتحشد الأنباء صدفة ثم وقفة فاتفاق فاشتياق فموعد فلقاء فقليل من السعادة لا يكمل فيه ولا يطول الهناء والناجي في البيتين الأخيرين يذكرنا بقول أمير الشعراء أحمد شوقي نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء إلا أن لقاء شوقي يتم وسط النعيم والحياء أما لقاء ناجي فهو لا يحمل إلا القليل من السعادة ولا يطول بالمحبين الهناء أما الجزء الثاني من السراب بعنوان «السراب علي البحر» فيقول إبراهيم ناجي: لا القوم راحوا بأخبار ولا جاءوا: ولا لقلبك عن ليلاك أنباء جفا الربيع ليالينا وغادرها: وأقفر الروض لا ظل ولا ماء يا شافي الداء قد أودي بي الداء: أما لذا الظمأ القتال ارواء ولا لطائر قلب أن يقر ولا: لمركب فزع في الشط ارساء عندي سماء شتاء غير ممطرة: سوداء في جنبات النفس جرداء والتجربة العاطفية في هذه القصيدة مدخل للحياة والبشر وما يسود هذه الحياة من فساد وأحقاد وصخب واضطراب ولكن الشاعر لا يعنيه من هذه الدنيا سوي حبيبته حيث يقول: تفرق الناس حول الشط واجتمعوا : لهم به صخب عالٍ وضوضاء مالي بهم أنت لي الدنيا بأجمعها : وما وعت منك إغناء لو أنه أبد ما زال عن سنة : ومدة الحلم بالجفنين إغفاء إذا أنطقت في بالقول منتفع: وإن سكت فإن الصمت إفشاء ياليل من علم الأطيار قصتنا : وكيف تدري الصبا أنَّا أحباءُ لما افقنا رأينا الشمس مائلة : إلي المغيب وما للبين إرجاء شابت ذوائب وانحلت غدائرها : شهباء في ساعة التوديع صفراء مشي لها شفق دام فخضبها : كأنه في ذيول الشَّعر حناء ثم ينتقل الشاعر إلي السراب في السجن فيقول: ياسجين الحياة أين الفرار : أوصد الليل بابه والنهار فلمن لفتة وفيم ارتقاب : ليس بعد الذي انتظرت انتظار والتعلات من هوي وشباب : قصة مسدل عليها الستار ما الذي يبتغي العليل المسجي : قد تولي العواد والسمار طال ليل الغريب وامتنع الغمض وفي المضجع الغضا والنار ثم يخاطب الحبيب فيقول: ياديار الحبيب هل كان حلماً : ملتقي دون موعد يا ديار ياعزيز الجني عليك سلام : كيف جادت بقربك الأقدار بورك الكرم والقطوف وأوقات : كأن العناق فيها اعتصار مزج الشاعر إبراهيم ناجي في شعره بين عناصر متعددة فهو يتحدث عن الحب ولكنه يري الحياة بأسرها من خلال رموزها في الطبيعة وفي القيم وعلاقات البشر ليست إلا محنة قاسية حتي أنه يصفها بالعبث حيث يقول: ما انتفاعي تلك قافلة العيش وفي ركبها اللظي والدمار الدمار الرهيب والعدم الشامل واللفح والضني والأوار. وإذا كانت الحياة مجرد عدم شامل فقد ظل إبراهيم ناجي يبحث عن الحب والمرأة والجمال كملاذ أخير لهذا القلب العاشق الحزين