أجمل ما تقدمه السينما لعشاقها أحيانًا.. هي هذه المفاجآت غير المتوقعة التي تمسكك من أنفاسك وتجبرك علي إعادة النظر في كثير من المواقف والأفكار التي اتخذتها. هناك أفلام تأتي لتؤكد لك حقيقة أنت تعرفها ومؤمن بها حتي الثمالة.. وتجيء هذه الأفلام لتؤكد هذه الحقيقة بشكل جذري لا يدع مجالاً بعد ذلك لأي شك.. كما حدث في فيلم داود عبدالسيد الأخير (رسائل البحر) الذي أجمع نقاد مصر جميعًا دون استثناء علي أنه سهم من ضياء ساطع كسر ظلمة السينما المصرية السائدة اليوم. وتأكيدًا لوجود مواهب تمثيلية شابة يمكنها أن تقف علي قدم واحدة مع عمالقة التمثيل الذين أقمنا لهم النصب ووضعنا حول رؤوسهم الهالات. وهناك أفلام أخري تأتيك علي غير توقع.. فتفتح أمام عينيك نافذة واسعة من الضياء والأمل معًا وتدعوك إلي أن تترك تشاؤمك إلي حين.. وأن تنظر إلي هذه السنابل الواعدة المليئة بالعطاء والتي تتدفق منها الموهبة.. كما تتدفق المياه من الشلال.. إنه فيلم (ولد وبنت) الفيلم الأول لمخرجه الشاب كريم العدل والذي يلعب بطولته نجمان شابان يتحملان مسئولية البطولة لأول مرة هما أحمد داود ومريم ياسين إلي جانب وجوه شابة أخري.. كآية حميدة.. وهاني عادل.. تدعمهم مواهب راسخة وثابتة القدم كسوسن بدر وسلوي محمد علي. في قصة حب شديدة الجرأة.. وشديدة المعاصرة تقول كل شيء بصراحة نادرة ومن خلال إحساس رهيف وحوار عفوي يشهد عمقه من عمق الشخصيات المرسومة بدقة وحب ودفء ملفتة للنظرة كتبته ربما لأول مرة هي أيضًا علي الشاشة علا عزالدين. قصة حب ترصدها الكاتبة ويصورها المخرج بدفء عميق وحنان يصل إلي شغاف القلب.. تعود إلي أيام الطفولة والصبا.. وتطور السنين والنضج العاطفي والعمري.. لتنتهي أمام باب موصد.. في حديقة مهجورة تسيطر عليها الأعشاب المجنونة.. وتغلفها الذكريات بستار من دموع. طفولة متمردة منذ اللحظات الأولي للفيلم التي تصور طفولة الشاب (سامح) وشقاوته مع مربيته النوبية.. يدفعنا الفيلم دفعًا إلي الدخول في دهاليزه وسراديبه السرية فاتحًا أمامنا.. احتمالات لا تحصي.. عرفت الكاتبة كيف تزرعها وعرف المخرج الشاب الموهوب كيف يرصدها ويقدمها.. يساعده في ذلك أداء عبقري للطفل الشقي الذي لعب دور البطل طفلاً.. إنه يضعنا أمام طفل متمرد، يكره القيود ويرفض الاستسلام.. يحرص علي تأكيد رغباته وينظر إلي الدنيا وكأنها كرة عليه أن يتعامل معها بذكاء ووحشية أحيانًا حتي يوصلها إلي هدفها. أما الفتاة (شهد) فهي كما يطلق عليها الفيلم (سندريللا أبوها) الكاتب الكبير الذي يؤمن بالجسد إيمانًا كليا وله نظرية شديدة الخصوصية في الحب.. يكررها دائمًا في جلساته وفي لقاءاته الصحفية أمام ابنته، أناني مؤمن بذاته، يعامل زوجته العاقلة المستكينة معاملة الجبابرة.. ولكنه مع ذلك منطلق، حساس، رضي إلي أبعد الحدود مع ابنته، لا يمانع في أن تترك مذاكرتها مع زملائها، لتشاركه رقصة محمومة في مكتبه. يكلم ابنته كما يكلم حبيبة له.. يورثها كبرياءه وفلسفته وطريقته في الحياة.. دون أن يدرك أن هذا كله سيكون سببًا لدمارها ودمار قلبها.. واغتيال حبها فيما بعد. مشاهد الطفولة والمراهقة.. وبدء علاقة الحب بين سامح وشهد وتبادل الرسائل في الفصل وصديقة شهد الحميمة (ليلي).. التي تراقب نمو هذا الحب وتحرسه.. إلي أن تكتشف فيما بعد وفي مشهد شديد الرقة والحساسية أنها كانت تحب سامح ربما أكثر مما كانت تحبه شهد.. لأنه حب مطلق يقوم علي مفهوم العبودية الشرطي.. الذي كان ومازال يميز كثيرًا من نساء بلدنا. أضواء تفسيرية مشاهد متتالية من أيام الصبا.. وأحداثها، تلقي أضواء تفسيرية علي الشخصيات كلها وقد ساعدت الإدارة المدهشة للممثلين.. خصوصًا هؤلاء الذين يخوضون تجربتهم الأولي علي الوصول إلي مناطق عالية الإثارة والتأثير، وبالطبع.. فلن أشير إلي أداء كل من السيدتين سوسن بدر في دور والدة شهد والسيدة سلوي محمد علي في دور شقيقة سامح والتي تشرف علي تربيته عوضًا عن أمه المتوفاة. فهما قد أصبحتا من دعائم الفن التمثيلي المساعد في مصر.. ومن نافلة القول تكرار الشهادة بموهبتهما وقدرتهما علي التقمص وإعطاء الشخصية التي تلعبانها.. العصب والدم والعرق اللازمين. لقد كانتا دعامتين كبيرتين للفيلم أحسن المخرج انتقاءهما.. كما أحسن بامتياز اختيار الأدوار الثانوية الأخري. مشهد لا ينسي الفيلم يتابع مرور السنين.. وبدء الحب الطفولي.. مرورًا بزمن المراهقة وهناك مشهد لا ينسي في هذه الفترة، عندما يعد سامح شهد بأن يذهبا إلي السينما.. فتخلف هي الوعد شقاوة منها وكي (تشعلله) فيقف أمام بوابة السينما حائرًا فتلتقطه فتاتان شقيتان من الفصل تجلسان في آخر المقاعد وتتبادلان (الفتك به).. مشهد لذيذ في جرأته وفي سذاجته الشقية ربما روح الدعابة الرائعة التي تغلفه ويتطور الزمن.. وتتطور العلاقة ويقرر سامح أن يدخل في كلية الفنادق التي يميل إليها رغم معارضة أسرته.. وتقرر شهد خصوصًا بعد أن فقدت أباها وأصبحت حائرة.. كريشة في مهب الريح أو كبناء بلا أساس تتقاذفها تيارات متعددة.. ولا تعرف إلي أي اتجاه تتجه بعد أن فقدت (البوصلة) الحقيقية التي كانت تهديها إلي معالم الطريق وتحميها من العواصف. أمها الضعيفة.. تتزوج ثانية.. بعد موت زوجها الكاتب الكبير.. مما يخلق سوء تفاهم مرعبًا بين الابنة التي مازالت تحمل ذكري أبيها في أحاسيسها وقلبها وبين الأم التي تري أنه يحق لها أخيرًا أن تحيا حياتها مع رجل يعاملها كامرأة وليس كجارية. كما كان يفعل الكاتب الكبير الذي يحيا ثنائية نفسية مرعبة. حرية وتمرد تقرر شهد أن تعمل موديلاً.. مما يسبب لأوة مرة (العراك) بينها وبين سامح، شهد التي ورثت الحرية والتمرد من أبيها.. وسامح الذي يبدو ورغم كل مظاهر تحرره، شرقي في أعماقه يعيش علي مبادئ.. يحاول أن يتجاهلها ولكنها هي التي تدير محرك حياته. شخصيتان تموتان حبا في بعضهما.. ولكن خلفيات كل واحد منهما.. آراءه وعزة نفسه وكبرياءه تمنعانه من قبول أي تنازل في حق الآخر، وما هو الحب إذا ما نتخلي عن جزء من أنفسنا في سبيل الآخر، هذا الحب النقي المدهش الذي تمثله الصديقة (ليلي) التي تكتم حبها.. ثم يتفجر من عينيها وسلوكها وكلامها بعد أن وصل إلي أعلي حدود القلب. حتي الجنس.. يصبح عاجزًا عن أن يهدم تمامًا الحاجز الذي يفصل بين شهد وسامح.. وعندما تقرر شهد أن العلاقة الجسدية قد تكون جسرًا للتفاهم.. كما تعلمت من أبيها.. ولكن هذه العلاقة تزيد سامح تمردًا وتمسكًا بملكيته لشهد.. كما تؤكد لشهد بطريقة ما تحررها وحريتها. بين هذا الشد والجذب.. تدور أحداث كثيرة من الفيلم، بدا لي بعضها أحيانًا مقحمًا وإن كان الفيلم يريد منه رسم شخصية (شهد) بالحبر الأسود كي يؤكد مواقفها ونفسيتها وردود أفعالها لعلاقتها مع هذا الشاب المتأمرك.. الذي يلاحقها ثم يحاول اغتصابها ويتركها وحيدة في الظلام في طريق مقفر عندما تتمنع عليه (وقد أدي الدور بمهارة ملفتة للنظر ممثل وسيم هو مفاجأة أخري من مفاجآت الفيلم). أما دور الكاتب الصحفي بهاء (هاني عادل) الذي سيحل محل الأب الذي فقدته شهد.. والذي ستجد فيه ملجأ لحيرتها ولأزماتها المتكررة مع سامح الذي تحبه بجنون ومع ذلك لا تستطيع الحياة معه.. فقد كان أيضًا ضمن هذه المفاجآت الحلوة الكثيرة التي امتلأ بها فيلم كريم العدل الأول. لقد كان زواجها منه هربًا من مواجهة نفسها واستسلامها لحب شرفي.. علمها والدها التمرد عليه وعلمتها شخصية أمها الضعيفة أمام والدها أن تبتعد عنه ما استطاعت. ثقافة كاتبة والحقيقة أنه لابد الإشارة إلي مستوي الحوار المرتفع الذي امتلأت به المشاهد.. والذي يدل علي ثقافة ورهافة دون حساسية الكاتبة الشابة التي اعتقد جازمًا أن سيكون لها نصيب كبير في سينمانا المصرية القادمة. حوارات شهد وسامح العاطفية أحيانًا والمجنونة أحيانًا أخري، الرقيقة لدرجة الهمس أحيانًا والصاخبة المدوية أحيانًا أخري، والتي استطاع الممثلان الرئيسيان أن يؤدياها بمهارة وتلقائية تثير الإعجاب وحوارات شهد وأمها.. اعترافات ليلي الحزينة.. حوار شهد مع الكاتب الشاب الذي ستختاره زوجًا فيما بعد دون أن تنسي لحظة واحدة حبها الكبير الذي ولد معها منذ الطفولة.. والذي يبدو أنه لن يفارقها حتي آخر لحظة من حياتها. اكتشاف مذهل أحمد داود في دور سامح.. اكتشاف مذهل يؤكد لنا أن السينما المصرية مازالت قادرة علي أن تعطينا مواهب فذة لا يمكن مقاومتها.. وجه مصري حقيقي انفعالات دافئة، ثورات جامحة، حنان يفيض من العينين، شقاوة مستحبة، ألم دفين مكتوم في الصدر، عواطف شتي متباينة متناقضة بين غيرة وغضب وهيام وشغف وحيرة، عبر عنها الممثل الشاب بقدرة واعية وبتأثير طاغٍ. أن تقدم لنا السينما المصرية في مشهد واحد ممثلين من طراز آسر ياسين وأحمد داود شيء جدير حقًا بالإعجاب والهتاف. مريم ياسين في دور شاق ومرعب يتراوح بين الهدوء الظاهري والثورة المكبوتة.. بين الحب الشرقي والتمرد الغربي بين حق الجسد، وحق الرجل، ترسم لنفسها مكانًا بين بطلات جيلها. كذلك آية حميدة، في دور ليلي المغلقة علي نفسها، العاشقة الصامتة عبرت بصدق وعفوية وأحسست بدموعها تجري في شرايين قلبها.. قبل أن تسيل من عينيها. ولكن المفاجأة الكبري إلي جانب هؤلاء الشباب.. زهرات الياسمين الندية، زهور الأقحوان البرية هو كريم العدل الذي يخرج من قمقم أول أفلامه عملاق يعد بالكثير.. والكثير جدًا. الإحساس بالزمن.. الإحساس بالمكان، الإحساس بالعواطف الظاهرة والباطنة، الإمساك بالإيقاع دون ترهل، الإحساس بالكلمة والموقف، القدرة علي إدارة الممثلين أطفالاً وكبارًا ومراهقين. كل هذه ميزات لا حصر لها.. ولكن ربما أكثر هذه الميزات تأثيرًا هو قدرة هذا المخرج الشاب علي أن يجعلك تخرج من فيلمه.. فخورًا سعيدًا وقد أحسست أنك قد أمسكت بكرة ذهبية ثمينة وأن مطرًا من جوهر.. يتساقط عليك.. ونداء بعيد يحمل أصداء لا تنتهي يهتف بك أن السينما المصرية لازالت ولادة، وأنها مازالت بخير، وأنها كالعنقاء تلد من رمادها وغير قابلة للموت.