ما بين صفحة الإهداء التي تقول: إلي مئذنة مسجد تنادي الله أكبر، إلي منارة كنيسة تسبح الله الواحد، إلي كل من يفهم ويعيش هذه الحقيقة، وما بين كلمة النهاية التي نصها: أنا مسيحي.. أنت مسلم، أنا إنسان.. أنت إنسان.. خلق الله لي روحا.. خلق الله لك روحا. أنا وأنت أمناء علي إنسانيتنا.. لماذا لا نوجهها للخير والحب؟ أنا وأنت لا نمتلك روحينا.. لماذا لا ندعهما للخالق صاحب الحق فيهما؟! هذا ما أردت أن أقوله في روايتي من خلال الواقع ومن خلال الخيال. تدور - ما بين هاتين الصفحتين - أحداث رواية «الروح الرابعة» للكاتب المهجري - كما يسمي نفسه - إدوارد فيلبس جرجس. تقع الرواية فيما يقرب من ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط وقام المؤلف بإصدارها علي نفقته الخاصة. الأرواح تبدأ الرواية أحداثها بحوار يدور بين الراوي وأحد أبطالها: - هل تعتقد في الأرواح؟ - أية أرواح؟ - أرواح البشر. - ماذا تقصد بسؤالك؟ - أقصد هل تعتقد أن أرواح من رحلوا عن الحياة يمكن أن تكون موجودة بيننا أو تحلق حولنا؟ - وهكذا بين تساؤل وإجابة احتمالية تمضي أحداث الرواية في طريق محاولة الإجابة القاطعة علي هذه التساؤلات إما بالنفي، وأما بالإيجاب، من اللافت - كذلك - للنظر أن الرواية تتمركز حول جملة - يمكن أن نصفها بالمحورية - تأتي علي لسان أحد الأبطال ويقول فيها: لأنك لو تأملت الحياة علي الأرض إما ستجدها دراما حزينة أو كوميديا ساخرة.. وأنا أفضل الكوميديا الساخرة وغاية أملي أن أودعها بابتسامة سخرية. بالكلمة فقط ثمة أربعة أبطال أساسيين في الرواية تصحبهم شخصية الراوي إضافة إلي شخصية الرجل الفلكي الذي يمثل نقطة المركز في هذه الرواية. الأبطال الأربعة هم: سعيد الورداني.. جيران الأسيوطي.. سمير كامل.. حسام الكواكبي.. والأخير هذا هو من يؤمن في مسألة الطالع والغيبيات ولذا كان كثيرا ما يصدق كلام الفلكي الذي كان يستقدمه ليقرأ له طالعه. جمعت الصداقة فيما بين سعيد الورداني وسمير كامل وحسام الكواكبي منذ أيام الطفولة خاصة وهم ينتمون إلي مدينة واحدة من مدن صعيد مصر.. المدن التي تصف أهلها الرواية قائلة: لم يحدث أن نشب خلاف بين أهلها - مسلمين كانوا أو مسيحيين - ولم يخرج أحدهم عن شرف التعامل مطلقا.. كان الارتباط بالكلمة فقط.. لا أوراق ولا توقيعات. الدرس المقرر بعد الحصول علي شهادة الثانوية العامة انتقل الأصدقاء الثلاثة إلي القاهرة بهدف الالتحاق بالجامعة إذ لم تكن توجد في ذلك الوقت جامعات في الصعيد وهنا نلمح الإشارة إلي الهجرة الداخلية من الصعيد إلي غيره من المدن إما من أجل الدراسة أو من أجل البحث عن فرصة عمل مناسبة وأحيانا غير مناسبة. تبدأ معرفة حسام الكواكبي - الذي ينتسب إلي عائلة جدها باشا- بالرجل الفلكي عن طريق إحدي الراقصات التي اعتاد أن يقودها من ملهاها الليلي إلي فراشه كلما أراد ذلك، كان حسام الكواكبي تستهويه مثل هذه الأشياء ويؤمن بمعرفة الطالع لأن جدته كانت لها موهبة قراءة الفنجان وكان كل ما تخبر به يصدق. وعلي الرغم من أن صديقي حسام أطلقا علي الرجل اسم الدجال أو المشعوذ إلا أنه كان دائما ما يستاء من تهكمهما ويصفهما بالجهل ويرجع هذا إلي إيمانه بالفعل بوجود عالم لغير المرئيات لا يتاح الاقتراب منه إلا للبعض الذين لهم موهبة اختراقه. وبهذا أصبحت عادة حسام أو درسه المقرر عليه كلما ذهب إلي الملهي هو وصديقاه أن يجلس الرجل الفكلي معهم يتبادل أطراف الحديث مع حسام ثم يقرأ له خطوط كفه. وهنا نلمس الصراع الدائر بين من يؤمن بمثل هذه الخرافات- من وجهة نظر البعض- وبين من يعتبرون هذا ضربا من فقدان السيطرة علي العقل. مسيحي في المسجد ظلت العلاقة التي تربط بين الأصدقاء الثلاثة وبين الرجل الفلكي تسير كما هي إلي أن جاء يوم وطلب أحدهم من الفلكي أن يستدعي لهم روح أحد الشيوخ أو القساوسة واتفقوا علي روح الكواكبي باشا جد حسام وقام الفلكي بتحضير الروح لكنه لم يستطع بعد ذلك أن يصرفها ففر هاربا بلا رجعة. وبهذا ظلت روح الكواكبي معهم في الشقة حتي دخلت ذات يوم في جسد سمير كامل، وفي يوم جمعة طلبت روح الكواكبي باشا من سمير كامل أن يذهب لصلاة الجمعة فقال لها ألا تعرفي أنني مسيحي؟ كيف تطلبين مني أن أتوضأ وأن أذهب لصلاة الجمعة؟ ودام الحوار بينهما حتي رضخ سمير لأمر الروح وذهب للصلاة غير أنه عاد مسرورا، لأن أحدا لم يكتشف أمره، في يوم الأحد استيقظ سمير مبكرا، اغتسل وارتدي ثيابه الوقورة واستعد للذهاب للصلاة في الكنيسة وطلب من روح الكواكبي باشا أن تصطحبه فردت عليه بأنها روح مسلمة فكيف تذهب إلي الكنيسة؟ فقال سمير أنا الذي سيصلي ولست أنت.. أنسيت ما حدث يوم الجمعة الماضية؟ جسد وروحان لقد اكتشف سمير كامل هو وروح الكواكبي باشا أنهما يطبقان تفسيرا جميلا لمقولة «لكم دينكم ولي دين» خاصة وأنهما جسد واحد يحمل روحين وقد تخطيا عقبة كبيرة هي التفاهم علي العبادة، كل منهما يؤدي عبادته بحرية دون أن ينتقد الآخر أو يقوم بتجريحه وهذا هو المطلوب الأول في أية عقيدة. وهكذا يتواصل الحوار بين سمير كامل وروح الكواكبي باشا ليثبتا للجميع أن الأجساد التي تتنابذ من أجل الدين يكون مصيرها إلي الزوال أما الأرواح فتبقي وهي بيد الله، وبهذا تري روح الكواكبي في سمير عقلية ممتاز جدا حتي إنها تقول له: رجال الدين الذين يفهمون الأديان علي حقيقتها ويبتعدون عن اللغو الذي نراه كثيرا في عالمكم الآن يكونون بركة كبيرة يا سمير. لقد وصل الأمر بسمير كامل المسيحي أن يدعو روح الكواكبي إلي الصلاة ويرجوها أن تداوم عليها فهي الطريق إلي الله، وبذلك يشعر سمير بالسعادة لأنهما تمكنا من التفاهم علي خطوة مهمة ليكون بينهما سلام دائم. عبيد وعباد من هنا نلمح - بوضوح - أن الرواية تمضي في طريق التصالح والتفاهم والاتفاق بين بني الإنسان خاصة وأن الأجساد سوف تفني ولن تبقي إلا الأرواح، كذلك ما من داع لنشوب الشقاق والانهيارات في الكيان الإنساني بسبب الدين لاسيما وأن رب الدين أباح للجميع حرية اعتناق الدين كما يحلو له وحرم ارغام أحد علي الدخول في دين معين.. فالله لا يريد عبيدا بل يريد عبادا أتوا إليه بطاعة ومحبة وليس بإجبار واضطرار. الوطن أما المحور الثاني الذي ترتكز عليه الرواية فهو يتعلق بالوطن والهجرة منه.. فعلي الرغم من أن العالم الجديد يبدو مختلفا بما فيه من تقدم وتكنولوجيا ورفاهية تفوق الوصف إلا أن الوطن الأم يبقي له سحره وجاذبيته التي لا يفقدها أبدا. وعلي لسان أحد أبطال الرواية نقرأ هذه الجملة: مسألة الإعجاب بأي مكان شيء والاستقرار فيه شيء آخر.. بالنسبة لي الوطن كالماء بالنسبة للأسماك.. شيء يهتف داخلي دائما.. كما ولدت فوق أرضه.. يجب أن تكون هذه الأرض مسواك الأخير. سرد يتلبس قارءه أخيرا.. تركز الرواية علي روح الإخوة التي لا تأتي من أم وأب فقط.. لكنها تعايش القلوب النظيفة التي لا تبحث سوي عن الخير في رحلة الحياة والنفوس الصافية دائما تبحث عن النفوس الصافية وعندما تتقابل لا تحتاج لتعارف لأنها تكون قد تعارفت قبل اللقاء، كل هذه الأشياء تتناولها رواية «الروح الرابعة» مازجة ما بين الواقع والخيال في أسلوب يبتعد قليلا عن المباشرة وفي طريقة سردية تتلبس قارءها ولا تفارقه - أو تنصرف منه - إلا بعد أن ينتهي من قراءتها محققة له أقصي درجات المتعة.