* تري ما الذي كان يمكن أن يحدث لو عاد الجيش إلي ثكناته بعد يوليو.. وعادت أحزاب الوفد والاحرار الدستوريين والسعديين والإخوان المسلمين والشيوعيين إلي الساحة السياسية في تحالف مع محمد نجيب وأنصاره في الجيش منذ أن رحل جمال عبد الناصر يوم 28 سبتمبر سنة 1970 تعددت التحليلات السياسية التي تصف ثورة يوليو سنة 1952 بأنها كانت مرحلة سوداء في تاريخ مصر، مرحلة أدت إلي وأد الديمقراطية والحريات التي كانت سائدة فيها من قبل، أنها أقامت ديكتاتورية دموية أودعت المعارضين لها في السجون والمعتقلات، ومارست عليهم أبشع أنواع التعذيب والقتل، انها كممت الصحافة وأفواه النقد، وحاربت تعدد الأحزاب و تنظيمات الشعب، أنها فرضت الرقابة علي حياة الناس وأقوالهم، وجعلت من سيطرة العسكر علي الحكم نظاماً دائماً يعيشه المجتمع حتي الآن. لا أحد يستطيع أن ينكر هذه الحقائق فقد ارتبطت بثورة يوليو، وبحكم الضباط الأحرار في مختلف مراحلها. لذلك توارت التحليلات التي كانت تُشير إلي إنجازاتها. ظلت أصواتها ضعيفة، واهنة قليلة التأثير علي الرأي العام، سائدة وسط الفئات والأوساط التي تنشط في المجتمع وتُؤثر علي مساره. زاد من ضعف تأثيرها جنوحها أحياناً إلي نوع من التأييد الأعمي الذي يتفادي ذكر أخطائها. علي رأس مَنْ تبني هذا الاتجاه الناصريون الذين ظلوا يتغنون بإنجازاتها، ويرددون شعاراتها دون أن يسعوا إلي القيام بدراسات تُعمق نظرة الناس إليها. الآن بعد أن مرت ستون سنة علي قيام ثورة يوليو مازالت آراء الخصوم والأنصار كما هي تقريباً، مسيطرة علي المثقفين والشباب، وإن كانت آراء الخصوم هي التي تتفوق في تأثيرها. لكن إزاء ما حدث بعد انطلاق الحركة الثورية لشباب 25 يناير 2011 من المهم تجاوز هذا الوضع. ذلك أن تحليل الفترات المهمة في تاريخ البلاد قد يكون من شأنه تغيير النظرة إلي بعض الأمور الجوهرية التي لها مدلول فيما يحدث الآن، في تعميق إدراك النشطين سياسياً بأن مراحل التغيير الجذري في المجتمع معقدة دائماً، تطرح ما هو جديد، وما لا يتفق مع التحليلات، والتوقعات التي تعودوا عليها. ومن هنا أهمية إعادة النظر في الآراء السائدة علي ثورة 23 يوليو سنة 1952 . السؤال الذي يطرحه هذا المقال هو لماذا سارت ثورة 23 يوليو في طريق معاد للديمقراطية والحريات السياسية؟ هل كان أمامها فرصة لاختيار طريق آخر تسير عليه؟ ذلك أن التطور التاريخي له أحيانا حتميته، حتي وإن لعب الأفراد والجماعات والأحزاب وجماهير الشعب دوراً في مساره. إنه تساؤل وارد في وقت تُواجه فيه البلاد سلطة مزدوجة طبيعتها تدل علي أنها ستمارس القهر والقمع في إدارة نظام الحكم. فكيف ىُمكن مقاومة هذا الاتجاه الذي تجسد في الكثير مما حدث أمام عيوننا حتي الآن منذ انطلاق حركة الشباب في 25 يناير. نشأة ثورة يوليو لم تكن ثورة يوليو حصيلة حركة شعبية ناضلت، لمدة سنوات حركة تبلورت أثناءها أحزاب، ومنظمات، وتحالفات ديمقراطية لها قياداتها، وكوادرها. كان النظام الملكي إذ ذاك آيلا للسقوط بسبب المعارك الطويلة التي خاضها الشعب ضده، ولم يبق سوي ركلة أخيرة لإسقاطه. هذه الركلة جاءت في شكل انقلاب عسكري قامت به منظمة سرية أقامها عدد من ضباط الجيش بحافز نبع من مشاعرهم الوطنية، مما كان عاملاً مهماً في تحديد السياسات التي اتبعوها فيما بعد. لا يخفي علينا أن ضباط الجيش هؤلاء كان لهم تكوين خاص وأسلوب خاص يتبعونها في مواجهة المشاكل، وهو أسلوب لم يكن ديمقراطياً بالقطع. ىُضاف إلي ذلك أنهم في هذا الوقت استولوا علي جهاز للدولة عريق في البيروقراطية، معاد هو أيضاً للديمقراطية والحريات، وأنهم كانوا مرغمين للاعتماد عليه في تغيير ما أرادوا تنفيذه من سياسات وإصلاحات، أنه لم يكن في رؤيتهم ولا حتي في مقدورهم تفكيك هذا الجهاز الصلب، العتيق، فاكتفوا بتعيين ضباط في المناصب العليا والمتوسطة لجهاز الحكم. كان جمال عبدالناصر كشخص جزءاً من المؤسسة العسكرية، منتمياً إليها، متأثراً بعقليتها وأساليبها، حتي وإن تميزت شخصيته بقدر أكبر من المرونة، واتساع الأفق، والاستعداد للتطور عن الضباط المحيطين به. كانت تدفعه رغبة ملحة في أن يشهد بناء بلد مستقل لا يتبع أي قوي أجنبية، بلد له وضع خاص بين بلاد العالم، ونظام للحكم يعتني بمشاكل فئات متزايدة من المواطنين، والمواطنات الذي حُرموا من فرص العمل والحياة. مع ذلك كان من الطبيعي مهما تطور مع التجارب التي خاضها ألا يتخلص تماماً من تكوينه كضابط، فقد عاش حياته ضابطاً عاملاً في الجيش متأثراً بسلبيات المجتمع الذي نشأ فيه وأحاط به في مختلف مراحل العمر. الديمقراطية ليبرالية لا مجال للإقلال من أهمية الديمقراطية الليبرالية والحريات التي كانت سائدة قبل ثورة يوليو، والتي كانت تصبوالجماهير إلي تطويرها، وتُدافع عنها فئات للمجتمع تنتمي أساساً إلي الطبقة المتوسطة وعلي الأخص إلي المثقفين، والمهنيين، والنخب السياسية المستنيرة نسبياً. لكن هذه الليبرالية كانت تعتبر أن قضيتها الأساسية مرتبطة فقط بالحريات الديمقراطية، ولا تعنيها كثيراً المصالح الاجتماعية لمختلف فئات الشعب. أحزابها لم تكن راغبة في المساس بمصالح الإقطاع، والرأسمالية الأجنبية والمحلية المسيطرة علي اقتصاد البلاد بسبب خضوعها لها، أو تهادنها معها، أو خوفها من خوض المعارك ضدها. وعندما قامت ثورة 23 يوليو طالبت هذه الأحزاب بعودة الجيش إلي ثكناته، بإعادة الأوضاع إلي ما كانت عليه من قبل. سعت إلي بقاء سيطرة الأحزاب والقوي السياسية القديمة، إلي أن يظل المجتمع خاضعاً إلي ما اعتبرته النظام الديمقراطي الأمثل القائم علي تعدد أحزاب تخضع قياداتها للإقطاع والرأسمالية المتحالفة مع الاستعمار. لذلك ظلت تعارض جميع الإجراءات والسياسات التي أقدمت علي تنفيذها الثورة ومنها سن قانون للإصلاح الزراعي، وتأميم قناة السويس، ورءوس الأموال الأجنبية والمحلية لاستخدامها في التصنيع، في إقامة اقتصاد مستقل. عارضت مجانية التعليم، ونظام صحي مجاني مبني علي إقامة مستشفيات ووحدات صحية في المدن والريف. عارضت اتباع سياسة خارجية مستقلة مبنية علي عدم الانحياز، والسعي لإقامة وحدة عربية رغم أنه نتيجة هذه السياسات أصبحت مصر بلداً لها كلمة، ولها وضع في العالم، وليست بلداً تابعاً للقوي الأجنبية، خاضعة للاستعمار. كان هذا هو موقف قيادتها عندما كانت الأحزاب قائمة واستمر هذا الموقف عندما تحولت بعد حلها إلي تجمعات وتيارات شبه سرية. إزاء هذه الحقائق لنا أن تتساءل: تري ما الذي كان يمكن ان يحدث في تلك الأيام لو عاد الجيش إلي ثكناته؟ تري لو نجحت هبة مارس سنة 1954 وعادت أحزاب الوفد، والاحرار الدستوريين، والسعديين، والإخوان المسلمين، والشيوعيين إلي الساحة السياسية في تحالف مع محمد نجيب وأنصاره في الجيش، إذا عاد النظام الديمقراطي إلي سابق عهده إلي أين كانت ستسير البلاد؟ أليست هذه أسئلة تستحق أن تطرح وأن يتم الإجابة عليها عندما تناقش ثورة يوليو، وتوضع في الميزان؟ صحيح أن ثورة يوليو انهارت في عهد السادات بعد أن دخلت في مرحلة من العد التنازلي خصوصاً إثر هزيمة 1967 لكن لماذا سقطت؟ هل نتيجة الاخطاء الجسيمة التي ارتكبتها والفساد الذي اخذ يتغلغل في نظامها؟ لا شك أنها كانت عنصراً مهماً في تصفيتها، وفي تصفية أغلب منجزاتها. لكن كيف يمكن تجاهل حقيقة القوي العالمية، والإقليمية، والمحلية العاتية التي كانت تناصبها العداء منذ أن أخذت تسير في طريق يهدد مصالح هذه القوي، أن الاستعمار العالمي وإسرائيل ونظم أخري في المنطقة العربية دأبت علي محاربة هذه الثورة بمختلف الوسائل. مازالت ثورة يوليو تحتاج إلي دراسة أعمق مما تم حتي الآن ففي هذه المرحلة المهمة من تاريخ البلاد هناك دروس متعلقة بها ينبغي الالتفات إليها. هناك قطاعات مختلفة من الشباب والمثقفين، والنخب السياسية التي تقوم بأدوار أساسية في معارك المجتمع الدائرة الآن مازالت لم تتنبه إلي قصور النظرة الليبرالية للديمقراطية والحريات عن تحقيق مجتمع متماسك يحقق للشعب مصالحه ويوفر له مستقبل أكثر أمناً ورفاهية. هذا القصور يتجسد أساساً في الصراع الديمقراطي الدائر حول الدستور، ومجلس الشعب والإعلام وغيرها من القضايا لكن حتي الآن لم يبدأ صراع سلمي حقيقي من أجل مصالح وحقوق الفلاحين، والموظفين والعمال، والمهنيين، والحرفيين، والنساء بينما هناك حاجة ملحة إلي الربط بين الاثنين وإلا سيظل الشعب واضعاً مسافة بينه وبين القيادات التي تسعي إلي التغيير. لم يدرك الكثيرون من أفضل أبناء الشعب أن ثورة يوليو رغم أخطائها ومآسيها كانت من أعظم المراحل التاريخية التي مرت علي مصر.