من بداية رحلته مع الحياة.. شكل الإنسان من الطين اواني واوعية لحفظ الطعام والشراب.. تطورت مع الزمن وبدأت تتنفس ببديع التعبير وامتدت اصابعه المرهفة من دولاب الطين.. إلي النيران وهندسة الافران.. فكان هذا الفن الذي تألق في اشكال والوان من التشكيل.. خاصة والطين الاقرب التصاقا بالارض يتشكل ويسمو بلا انطفاء من صلصالها.. مسكونا بالبلاغة والاشارة العابرة والرمز الهامس مع موسيقي الالوان . وقد كان ميراث مصر في هذا الاتجاه كبيرا علي مر العصور.. بلغ ذروته في الفن الإسلامي.. وقد احتفظ الخزف والفخار في ظل الحضارة الإسلامية بمكانة مهمة بين منتجات الفنون التطبيقية الإسلامية الامر الذي يسر الاعتماد عليه بشكل رئيسي في ترتيب مراحل التطور التاريخي والفني وهو الاقرب إلي روح الإنسان.. فتألق بالدقة والمهارة والذوق في صور واشكال عديدة من المحاريب والفناجين والاقداح والكؤوس والصحون والسلاطين والاكواب والاباريق والقوارير والازيار والمسارج . واذا كان الفن هو الحضارة.. فلاشك أن الفن الإسلامي يعد من اعظم الفنون التي انتجتها الحضارات الكبري.. وهوفن علي درجة كبيرة من التمدن والرقي يؤكد علي رهافة الفنان المسلم، حيث يعكس بلغته التعبيرية روح المكان والزمان من خلال هذا التنوع والثراء الذي يموج بشاعرية النقوش والزخارف والحشوات وابتهالات الخط العربي.. بل وبلاغة التصوير وحكمة النحت !!. وقد بلغ فن الخزف ذروة كبيرة من الاعجازالبشري كما في الخزف ذو البريق المعدني الذي نطق بالنور والاشراق . ومن بين ايات الابداع الإنساني التي جسدت روح الحضارة ورقيها وسموها "شبابيك القلل "..والتي تمثل حالة خاصة ومتفردة في الابداع خاصة في مصر .. جمع فيها الفنان بين سحر اللمسة والوظيفة او المنفعة.. كما جعل وجدانه معلقا دائما بسحر النقوش وصور الطيور والحيوانات والشخوص الإنسانية.. حفلت بها تلك المخرمات التي تشبه الدنتيللا.. خاصة وهو يتعامل مع القلة طوال يومه وقت الهجير في فصل الصيف . وعلي الذين يجتزئون الفن الإسلامي حاليا ويجافون التشخيص بل ويحرمونه أن يتطلعوا بعين الجمال والحب لتلك الشبابيك من قلل العصر الفاطمي والايوبي وعصر الدولة الطولونية والعصر المملوكي والتي ازدهرت في مصر وتكاد تكون قاصرة عليها.. هنا يتاكد لنا أن الفنان المسلم لم يكن يحده قيود في التعبير او التشكيل وذلك من اجل أن تكون معيشته مسكونة بثراء الابداع الذي يرتقي بالذوق والوجدان.. وهذا عكس مايحدث من البعض الان من دعاوي التحريم التي توصم الفن بالرجوع إلي الجاهلية الاولي في عصر الليزر والفيمتو ثانية والنبض السريع لثورة الاتصالات. شباك من النغم وشباك القلة هو الجزء الذي يصل بين رقبتها وبدنها ويستخدم في تنظيم تدفق المياه عند الشرب كما يحفظ الماء من الشوائب والحشرات . وتعتمد زخرفة شبابيك القلل علي وجود ثقوب يحدثها الصانع كما في القلل الشعبية والتي تبدو فيها شبابيك القلل بدون اشكال منتظمة او زخارف متقنة تمشيا مع اللمسة البسيطة للقلل الحمراء والبيضاء التي مازالت مستعملة بطول الوادي والدلتا والي وقتنا الحالي . لكن وصلت زخرفة شبابيك القلل في الفن الإسلامي إلي درجة كبيرة من الاناقة والرقي . وقد اصاب الحرفيون من الفنانين المصريين توفيق عظيم في ذلك كما يشير ابو صالح الالفي.. بالكتابات الكوفية المورقة والرسوم الآدمية ورسوم الحيوانات والطيور وحتي الاسماك.. اضافة إلي الاشكال الهندسية ذات الطابع التجريدي والتي تنساب بموسيقي من النغم التشكيلي. وفي الوقت الذي اهتم فيه الفنان في التعمق في غنائية تشكيل شباك القلة ظلت معظم القلل نفسها بغير طلاء او نقوش ورسوم زخرفية فقد كان الغرض هو التركيز علي شباك القلة دون غيره حتي يظل من يتعامل مع القلة بشكل يومي علي صلة اكيدة بتلك النقوش التي يحفل بها الداخل.. وفي هذا تقدير للجمال مع الاحساس بالارتواء.. وربما كان الاقتصار علي هذا مما يحقق الغاية الاقتصادية وفي نفس الوقت لايضيع علي الصانع فرصة اظهار مايفتخر به ويعكف عليه من دقة ومهارة وذوق وتفنن. وتؤكد شبابيك القلل ازدهارها في مجموعتين بالقاهرة اولهما بمتحف الفن الإسلامي والمجموعة الثانية بمتحف الخزف الإسلامي بالجزيرة بقصر الامير عمرو..و الذي يعد اكبر متحف للخزف في الشرق الاوسط . المخرمات وسحر الدنتيللا تقوم الزخرفة في شبابيك القلل علي التشكيل من خلال المخرمات او الثقوب من الاجزاء المنزوعة التي ينفذ منها الماء والتي تتباين مع الاجزاء الاخري الصماء وهنا تلتقي مع الدنتيللا التي نطالعها في الثياب وفي الحالتين لايستعين الفنان باي وسائط تشكيلية من التلوين او التجسيم او البروز وانما بالفتحات التي تشكل الفراغ الذي يصنع الشكل.. وهنا نجد علي بعض شبابيك القلل عبارات في عناصر زخرفية ذات طابع تلقائي وغالبا عبارة عن حكم مأثورة وكتابات ذات اتجاه تعليمي وتربوي مثل :"عف تعاف " و" من صبر وقنع عز " و" من اتقي فاز " و" اقنع تعز " و" دمت سعيدا بهم " وهناك قطع عليها اسم صانعها بمثابة توقيعه في عبارة موجزة مثل " عمل عابد ".. كما أن هناك قطعاً عليها كتابة بخط كوفي مورق في اسلوب زخرفي جميل . اما رسوم الحيوانات والطيور والاسماك في تلك الشبابيك فهي علي جانب من الجودة ودقة الملاحظة تشهد بجمالها وتألقها لاجادة الفنان لها فظهرت في غاية التوفيق في الابداع الزخرفي للتعبير عن الحركة ومن بينها شباك شهير قوام زخرفته عبارة عن طاووس يتجه في التفاتة ناحية اليمين والخطوط هنا تبدو في اشكال قوسية ومنحنيات ذات طابع غنائي.. وتمتد شبابيك القلل بالغني التشكيلي وتنوع الزخارف مما يدل علي مدي ماتمتع به الخزاف المصري من حساسية واخلاص وقدرة كبيرة علي التعبير الفني.. وهناك شباك لطائر ممشوق برقبة قوسية وجناح مفرود وارجل منبسطة محفوف بالنقوش وامامه فرع نباتي تاكيدا علي وحدة الطبيعة وتالقها..وشباك اخر لفيل في تلخيص شديد.. هذا مع مايلتقي شباك القلة من الخيال الفنتازي كما نري في تشكيل عبارة عن سمكة مجنحة تكاد تطير .. اما شبابيك القلل التي تناولت الإنسان في التشكيل فمن بينها شباك لرجل جالس في يده مايوحي بكوب للشراب وهنا بلغت عبقرية التعبير مداها من خلال الربط بين كوب الشراب والقلة وصلة ذلك بالماء وفكرة الارتواء وري الظما خاصة في الحر وقت الصيف . لكل شباك عصره وتتنوع الاشكال والنقوش في شبابيك القلل من خلال الرسوم الهندسية المؤلفة من وحدات زخرفية مختلفة تمتد من الزهور إلي الخطوط المنحنية والشرائط والجدائل والوحدات الهندسية من الشكل السداسي والمثلثات والمربعات والدوائر والنجوم.. يتجلي فيها بشكل عام القيم الزخرفية المعروفة من التكرار والتماثل والتنوع فضلا عن احكام تنظيم المساحات الواقعة بين الوحدات الزخرفية وهنا وفق الفنان في الابداع والابتكار بعيدا عما يتطرق إلي النفس من سأم عند رؤية الرسوم المجردة . ومن خلال التجسيد المادي للشكل والفراغ والحذف والاختزال والحركة الناتجة عن الخروم او الثقوب الصغيرة يتحقق الابداع الفني الذي ظهر في ابهي صوره في تلك الشبابيك والذي اصبح علامة في الفن الإسلامي وعلامة اخري لمدينة الفسطاط التي كانت مركزا فنيا وصناعيا للخزف والفخار بطرزه المختلفة بدءا من الشعبي إلي خزف العصور والحقب المختلفة وحتي الآن والتي تعرف بمدينة الفخار . يقول زكي محمد حسن: ولقيمة شبابيك القلل التعبيرية والتشكيلية في الفن الإسلامي فقد عني المستشرق بيير اولمر بدراستها وحاول تقسيمها تبعا لوقت ابداعها من الحقب التاريخية.. حسب دقة رسومها ونوع صناعتها والتسلسل الذي ادي إلي نسبتها إلي عصرها.. وراي أن البسيط منها وغير المنتظم يرجع إلي عصر الدولة الطولونية.. كما أن عصر الفاطميين امتاز برسوم الحيوانات والطيور والشخوص الادمية بينما وجد أن هناك كتابات بالخط النسخي ترجع إلي العصر الايوبي وتميز العصر المملوكي بالرسوم الهندسية الدقيقة مع رسوم الشارات المالوفة التي نطالعها علي سائر الاثار المملوكية . تحية إلي لمسة تالقت بالسحر والجمال .