الفنان التشكيلي المعاصر هو أول من يدرك أنه لا يستطيع بث الروح في أعماله التي تصور أشكالا آدمية سواء أكانت رسما أو نحتا فهو لا يحتاج إلي من يحذره أو حتي يذكره بذلك، لأنه لم يفكر من هذا المنطلق ولم يتبادر إلي ذهنه شيء من هذا القبيل، بل إن لحظات الإبداع عنه الفنان تؤدي إلي تعميق إيمانه بالله، تلك اللحظات التي ينفصل فيها عن الواقع المحيط به والتي يدرك فيها روعة الاكتشاف الفني عندما يأتي بشيء غير مسبوق يميزه عن غيره من البشر فيكون أول من تصيبه الدهشة بما أتي فيدرك قدرة الله "الوهاب" علي إيداع سر "الإبداع" الموهبة لدي بعض البشر دون الآخرين. ولذلك فمهما اقترب الإبداع التشكيلي أو حتي تطابق في أحد فروعه مع "الشكل الخارجي" للإنسان أو الحيوان أوالطائر.. "كل من له روح" فإنه لا يجوز من الأساس مقارنته بخلق الله لاختلافهما من حيث "النوع" وليس من حيث "الدرجة" كما أسلفنا في مقال الأسبوع الماضي فهذا "خلق" من العدم وذاك "إبداع" ليس من العدم، وبالتالي لا يجوز إسقاط مسألة الحلال والحرام علي الأعمال التشكيلية حتي لو كانت نحتا بالنسب الطبيعية للإنسان، فالتحريم مرتبط فقط باستخدام هذه الأعمال في طقوس عبادة، وكلنا بلا شك فنانين وغير فنانين ندرك ذلك!! فكما تميز الفنان المسلم بمواهب عديدة في فن الرسم والتصوير كما أوضحنا بالأمثلة في المقالين السابقين فإنه قد تميز أيضا في مجال النحت البارز والغائر في الخشب والعاج والعظم، كما أبدع أيضا بعض أعمال النحت الجصية والحجرية والمعدنية بالإضافة إلي أعمال النحت الخزفي. ونجد أمثلة كثيرة للجدران التي زينها الفنان المسلم بالكثير من أعمال النحت الجداري كما وجدت بعض الأعمال النحتية لتماثيل صغيرة تمثل بعض الطيور منفذة بالحجارة أو المعادن ولكنها قليلة العدد بالقياس إلي أعمال النحت البارز والغائر التي نذكر منها نحتا جداريا تشخيصيا يمثل فارسين أحدهما يهاجم أسدا والآخر يصارع تنينا، وفي العصر السلجوقي كثرت أعمال النحت الآدمية والحيوانية لخدمة الأهداف الزخرفية، بينما انتشر في العصر المملوكي الجمع بين الحفر في الخشب والتطعيم بالعاج والعظم في أشكال جميلة من الزخارف النباتية وزخارف الرسوم الآدمية والحيوانية. وتعتبر أعمال فن العاج والعظم نوعية من فن النحت تشهد للفنان المسلم بتفوقه فيها تفوقا كبيرا تؤكده تلك التحف الإسلامية الكثيرة التي تملأ الكثير من متاحف العالم فقد استطاع الفنانون المسلمون أن يطوروا هذا الفن من حيث الشكل العام "الفورم" ومن حيث الحفر الغائر والبارز علي السطح، وتعتبر الأندلس من أكثر المناطق الإسلامية غني وثراء بأمثلة من هذا الفن. وقد اشتهر الأمويون والعثمانيون بإنتاج التحف والتماثيل العاجية التي استخدمت في أغراض متعددة، والصور المنشورة هي لعمل نحتي حفر في العاج لشخوص وحيوانات. وقد تميز الفنان المسلم بدقة الحفر في الخشب سواء أكان غائرا أم بارزا أم مجسما وسواء أكان ملونا أو غير ملون، وزادت براعته في هذا إبان العصر الفاطمي فاجتهد الفنانون في الاهتمام بالتفاصيل سواء في الأعمال التي تناولت عناصر من النبات أو الحيوان أو تلك التي احتوت علي تمثيل الأوضاع الحركية للإنسان خاصة مظاهر الرقص والصيد التي تميزت بقوة الحركة كما تميزت بالحيوية وجمال التعبير، وقد وجدت أعمال من القرن 10 ه 16 م تمثل أحداث الصيد ومواقف الصراع بين الإنسان والحيوان، كما وجدت أعمال أخري تجسد موضوعات لموسيقيين يعزفون بينما أناس آخرون يرقصون، وقد تميز فنانون عن غيرهم في فن النحت الغاذر والبارز في الأخشاب حتي إنهم حفروا أسماءهم علي الأعمال التي أبدعوها وهذا يعني اعتراف المجتمع بهم كفنانين ممارسين لفن النحت، تذكر المراجع منهم أسماء "أحمد عيسي الدمياطي"، و"علي بن طانين".. وغيرهما. ولا نستطيع في معرض حديثنا عن أعمال النحت البارز والغائر أن نغفل ما تحفظه المتاحف من نماذج من النقود الإسلامية التي تمثل في أحد وجهيها أو في كليهما وجوها آدمية، ومن أمثلة ذلك الدراهم والدنانير التي أمر بسكها معاوية وعليها تمثيل لشخص متقلدا سيفا، ويذكر بعض المؤرخين أن هذا الشخص هو معاوية نفسه، كما توجد نقود تمثل عبدالله بن مروان وأخري للمتوكل العباسي التي تمثل شخصا علي أحد وجهي الدينار، ورجلا يقود جملا علي الوجه الآخر، وأخري للمقتدر والمطيع لله ولصلاح الدين ولسيف الدولة.. وغير ذلك. أما بالنسبة لأعمال النحت الخزفي فقد كانت امتدادا لبراعة وتفوق الفنان المسلم في فن الخزف بوجه عام مما جعل الفنان المسلم يترك نماذج خزفية بأعداد لا حصر لها تتميز بنوعيات مختلفة، ومنها بالطبع بعض أعمال النحت الخزفي، فقد عالج الخزاف المسلم في إنتاجه الغزير هذا بعض العناصر الآدمية التي تمثل أحداثا دنيوية مثل حفلات الطرب ومشاهد الرقص، كما وجدت أعمال خزفية تمثل حيوانات وطيور بوجوه آدمية، بالإضافة إلي بعض التماثيل الخزفية علي هيئة الإنسان والحيوان مثل الغزال والأرنب والصقر والديك والهدهد والحصان والجمل.. وغير ذلك وكلها تعتبر محاكاة لكائنات لها روح، ويوجد بالمتحف الإسلامي بالقاهرة عملان من النحت الخزفي يصوران وجوها آدمية وهما من عصر الدولة الفاطمية. إننا كمصريين نعيش مع آثارنا الفرعونية العظيمة التي يمثل فن النحت فيها حجر الزاوية لاعتباره من أهم آثار الحضارة الفرعونية.. نعيش مع هذه الأعمال النحتية منذ آلاف السنين ولم يتحول أحد عن إيمانه بالله إلي عبادة الأصنام، رغم أن بعض هذه التماثيل كانت بالفعل تعبد كآلهة منذ آلاف السنين، وفي الوقت الذي كان فيه الإنسان يعبد الأصنام في الجزيرة العربية كان المصريون يؤمنون بالسيد المسيح عليه السلام.. فهل نأتي الآن ونخشي علي المصريين من عبادة الأوثان!! سؤال كان يجب ألا نضطر إلي طرحه!!