تُعد ثنائية "الشكل" و"المضمون" من أهم القضايا المثارة في الفنون التشكيلية، فكل نشاط إنساني يطلق عليه لفظ "فني" ولايحمل مضموناً لايعد عملاً فنياً. وتلك من الأمور الثابتة في تذوق ودراسة الفنون التشكيلية علي اختلاف فروعها. فإذا كان "الشكل" لا يؤكد "المضمون" بما يحمله من فكر وإحساس فإن العمل الفني يفقد هويته المميزة له ولايؤثر في عقل ووجدان المتلقي. ومن هنا تنبع أهمية تأمل العمل الفني لاكتشاف المضامين الفنية والفكرية التي تكسبه قيمته الخاصة التي تحفظ وجوده التاريخي كعمل فني.ولاشك في ان المضامين الجمالية والفكرية تختلف من عصر الي اخر ومن مكان الي اخر في نفس العصر، كما ان هناك مضامين "جمالية" عامة نجدها في نفس العصر، ومضامين "جمالية" خاصة نجدها في اعمال بعض الفنانين الذين تألقوا في هذه الفنون في عصرهم وأيضا هناك مضامين فكرية عامة حكمت الفنون التراثية (فرعونية أو قبطية أو اسلامية) في فترات تكوينها المبكرة، ومضامين "فكرية" خاصة بدأت تظهر في أعمال بعض الفنانين في فترات لاحقة وميزتهم عن اقرانهم في نفس الفترة الزمنية. ولعل هذا ما يؤكد أنه لايمكن النظر مطلقاً إلي أي عمل فني بمعزل عن المضمون العام والخاص الذي يحتوي عليه. من هذا المنطلق يمكننا المشاركة في الجدّل الدائر حول تحريم رسم الاشخاص او نحت تماثيل تصور اشكالاً آدمية من عدمه سنقتصر في هذا المقال علي الحديث عن فنون التصوير الاسلامي، بينما سنفرد مقالاً مستقلاً عن فن النحت الاسلامي. نبدأ بطرح سؤال يفرض نفسه، ألا وهو: ماهو المضمون الفكري والفني العام الذي تحتوي عليه أعمال التصوير المعاصرة في مصر مثلاً؟! وماهي المضامين الخاصة الفكرية والفنية الأكثر انتشاراً في تلك الاعمال؟! السؤال يحتاج الي كتب قد تحوي مئات الصفحات للاجابة عليه والاستدلال بالأمثلة.. ولكني أستطيع أن أجزم وأدعي أن كل الفنانين التشكيليين في مصر سوف يجزمون معي أنه لايوجد من بين المضامين الفكرية الكثيرة التي سيتم حصرها عمل تصويري واحد يحمل مضموناً ينتمي إلي عبادة الأوثان الممثلة في صور الأشخاص، ليس فقط في الأعمال المعاصرة ولكن أيضاً منذ الفتح الاسلامي لمصر لم يحدثنا التاريخ عن واقعة من هذا النوع، كما لم نعرف او نسمع او نقرأ عن أن أياً من متذوقي الفنون التشكيلية قد افتتن بعمل تصويري أدي به إلي عبادته من دون الله جل شأنه أو إلي الشرك بالله. أما في العصور الجاهلية قبل ظهور الإسلام فإن الهدف والمضمون كان واضحاً منذ البداية وقبل أن يشرع الفنان في عمله، وقبل أن يشتري الناس هذه الأعمال يبدو جلياً واضحاً في الحالتين، وقد فطن الفنان المسلم منذ قرون عديدة إلي ذلك فعرف الفرق بين هذا وذاك، فكانت فنون الرسم والتصوير من الفروع الهامة التي أقبل علي ممارستها الفنانون المسلمون بغرض تزيين الجدران أو تزيين صفحات المخطوطات برسوم تعبر عن مضمونها، بالإضافة إلي بعض الأعمال الفنية الأخري التي وجدت عليها أيضاً رسوم تشخيصية، ليس هذا فقط بل إن التاريخ يحدثنا أيضاً عن نشاط المصورين في رسم الصورة الشخصية (البورتريه) ويحفظ لنا نماذج كثيرة منها. ورغم أن الموجود من أعمال فن التصوير الإسلامي التي تحوي أشكالاً آدمية كثير، إلا أن الكثير منه يوجد في أماكن متفرقة من العالم، فهناك عدد ضخم من المخطوطات التي لايمكن حصرها ينعم بها زوار المكتبات والمتاحف العالمية حيث تعد من أهم الوثائق في الحضارة الاسلامية وأكثرها مجالاً في هذا الفن الذي يعد أحد أهم المظاهر المميزة للتراث الفني الإسلامي والتي تضم المراجع الأدبية والشعرية والكثير من الكتب التاريخية ومن أشهر أمثلة ذلك مقامات الحريري الشانامه منافع الحيوان كليلة ودمنة جامع التاريخ كتاب الملوك.. وغير ذلك.. فنجد بعضها في المكتبة الأهلية بباريس والبعض الآخر في المتحف البريطاني، ومنها مايوجد بالمكتبة القومية بفيينا، كما توجد أعمال أخري محفوظة بمكتبة الفاتيكان. ويوجد أيضاً في مكتبة جامعة "أبسالا" في السويد بعض منها. ويدين فن التصوير الإسلامي الي فن الكتاب لأنه كان سبباً في نشأته وتطوره، فقد كان ظهور فن الكتاب هو بداية ظهور فن التصوير الإسلامي الذي تمثل في تلك المنمنمات التي يمكن اعتبارها لوحات صغيرة المساحة لها اسلوب مميز في الرسم والتلوين الدقيق والتي لم تقتصر فقط علي الكتب الأدبية والتاريخية ودواوين الشعر وإنما نجدها أيضاً في الكتب العلمية بما اشتملت عليه من الكثير والكثير من اعمال التصوير التي تتناول الرسوم الآدمية. وقد ازدهرت تلك الفنون في العصور التالية فظهرت اسماء لامعة كان لها اساليب خاصة مما مّهد لظهور مدارس مختلفة في فن التصوير الإسلامي حددها التاريخ في أربع مدارس رئيسية وهي المدرسة العربية، المدرسة الإيرانية، المدرسة الهندية المغولية، والمدرسة التركية العثمانية. إنه لمن المؤسف حقاً أن نبحث في فنوننا وتراثنا الإبداعي لا لنؤكد أهمية الحضارة الاسلامية ونلقي الضوء علي فلسفتها ومراحل تطورها، ولكن لكي نقف موقف المدافع فنسوق الأدلة والبراهين علي أن الإبداع الإنساني لايعني العودة إلي عبادة الأوثان أو الشرك بالله وأن محاكاة الإنسان لما يراه حوله هي لكي يدرك ويتعلم النسب الجمالية التي يستطيع ان ينتج علي منوالها اعمالاً فنية. وهذه القدرة علي المحاكاة هي هبة من الله ميّز بها الانسان عن سائر المخلوقات. ونؤكد مرة ثانية علي أن الشكل والمضمون في العمل الفني لايمكن فصل أحدهما عن الآخر فإذا كان من البديهي الآن أن "مضمون" أي عمل فني لايمكن بأي حال من الأحوال أن يندرج تحت عبادة الأوثان أو الشرك بالله فليكن "الشكل" كما يريد الفنان، وليس من حق أحد أن يحدد له استخدام أشكال دون الأخري للتعبير عن فكره وإحساسه ووجهة نظره فيما يريد توصيله إلي المتلقي.. وللحديث بقية.