خميس شحاتة فنان شديد المصرية تمتد أعماله من سحر الأعماق الي تجليات الآفاق.. تتألق بالجميل في الأصيل وتمثل عصير الحياة الشعبية بلغة بصرية جديدة.. وهي أعمال مسكونة بعمق البيئة وقيم وتقاليد التراث المصري.. فيها حكمة التشكيل والتعبير البليغ المتصل بحياة الناس في كل مكان بطول الوادي والدلتا.. وهو شاعر الألوان والأنغام البصرية في الفن الشعبي.. إذا كانت هناك مدرسة في التصوير الإسلامي وفن المنمنمات قادها بهزاد في إيران ويحيي الواسطي ببغداد إلا أن شحاتة تمثل أعماله إيقاعا آخر ومنمنمات شعبية مصرية تنتمي للقرن العشرين.. يتعامل خلالها مع الصور الشعرية والألفاظ والحكم والأمثال وآيات الذكر الحكيم بروح الفنان العاشق فتتحول الحروف الي رسوم محملة بالمعاني.. ترق وتسمو وتهتف وتشرق وتغني.. يمتزج فيها التصوير بالخط العربي مع البناء المعماري.. كل هذا في معلقات نسجية مطبوعة ومصممة بزخارف شرقية.. تدق أحيانا فتصير في حجم الكف وتتسع في أغلب الأحيان بمساحات صرحية.. تذكرنا برسوم الوشم والكليم الشعبي وتصاوير الحج علي واجهات البيوت في ريف مصر المحروسة. أسد بدلا من الحروف في مدينة الاسكندرية بحي الجمارك.. هذا الحي الذي يبوح بكل ماهو شعبي ولد فناننا خميس شحاتة عام 1918.. كان والده تاجرا محبا للفن الذي يشع في جنبات البيت بلمسة تلقائية من تلك التصاوير التي تجسد السير والمدائح الشعبية..وعندما التحق بمدرسة المرسي ابوالعباس الأولية بدأت موهبته في الرسم تتفتح من البداية.. يرسم علي لوح الاردواز كل مايعن له من صور واخيلة.. وذات يوم لاحظ مدرس اللغة العربية الشيخ الصاوي انشغاله عن الدرس.. وبدلا من ان ينقل حروف الهجاء قام بنقل الاسد المرسوم علي حائط الفصل وما ان اقترب منه حتي أدهشه الرسم وما كان منه الا ان ذهب به الي الناظر الذي أمر بأن يمر به علي الفصول ليري زملاؤه مارسم ويصفقوا له.. ولقد أثرت تلك الحادثة في فناننا وكانت مشجعا له بطول رحلته مع الابداع . لم يكتف الطفل خميس بالرسم وحده فقد برع في تشكيل عرائس من وحي عروسة المولد التي كان يطالعها في ذهابه وعودته تقف غارقة في الحلم علي رفوف باعة الحلوي في موعد ثابت من كل عام في المولد النبوي الشريف . عندما انتقلت الاسرة الي القاهرة وهو في العاشرة سكنت حي السيدة زينب بجوار مسجد ابن طولون وقد ساهم هذا في تأكيد ولعه بكل ماهو شعبي واستلهام عصير الحياة بهذا الحي العريق.. وكانت والدته التي أصبحت أرملة في سن مبكرة تشجعه علي الرسم وتلهب خياله بالأغاني والحكايات.. كما تقول ابنته صفاء خميس . درس شحاتة بكلية الفنون التطبيقية بقسم الفنون الزخرفية والزجاج المعشق بالرصاص ودرس التصوير بمعهد التربية الفنية للمعلمين وكانت أول وظيفة له في الدلتا ان عمل معلما للتربية الفنية بمدرسة تدريب المعلمين بشبين الكوم وانتقل بعد ذلك الي مدرسة النقراشي الثانوية النموذجية وهناك أصدر مجلة مدرسية أشرف عليها معه رشاد رشدي مدرس اللغة الانجليزية بالمدرسة. في عام 1953 كان أول مفتش تربية فنية يدخل الكويت ليشرف علي 60 مدرسة و تتلمذ عليه معظم رواد الحركة الفنية هناك وانشأ بالكويت أول متحف عام 1958 وعاد لمصر بعد ذلك لينتقل من وزارة التربية والتعليم الي وزارة الثقافة في عهد ثروت عكاشة . في بيت السناري " الذي بناه كتخدا السناري في العصر العثماني بحارة مونج المتفرعة من ميدان السيدة زينب والذي كان مقرا لرئيس البعثة الفرنسية التي قامت بوضع كتاب وصف مصر عام 1899 اثناء الحملة الفرنسية علي مصر".. عمل بقسم البحوث الفنية وكانت حجرات البيت هي نفسها الاستديو الذي قام فيه بجمع وتنفيذ التصميمات وكان يوثق ويستلهم الموتيفات والعناصر الشعبية وينتج الآلاف من التنويعات مستخدما الوسائط العديدة من الجص والزجاج والألوان والخشب والبلاستيك والأصباغ والقماش . . حتي أصبح رائدا للفن الشعبي.. حاميا للتراث وخارجا عليه في نفس الوقت بأسلوبه التعبيري.. في أعمال تتواصل فيها الحضارة المصرية من الفرعوني والقبطي والإسلامي في قوام شعبي. الفن والحياة كان خميس شحاتة عضو مؤثرا في جماعة الفن والحياة التي اسسها المفكر حامد سعيد والذي قال عنه : " لو أنك شاهدت الفنان خميس شحاتة دون علم منه يوما كاملا من أيام حياته منذ نشأته طفلا حتي اليوم الذي أصبح فيه فنانا.. لو انك فعلت ذلك ودون علم منه لرأيت طفلا وشابا وكهلا وشيخا في وقت واحد معا ورأيتهم جميعهم حاضرين يعملون وكأنهم يلعبون.. ويلعبون ولكنهم في حقيقة الأمر جد عاملين ومخلصين.. لو أنك فعلت ذلك ورأيت تلك الظاهرة الجميلة.. لوجدت ان جوهر نشاط هذا الانسان الدمث الوديع منذ الطفولة وعبر الدراسة والوظيفة وحتي الآن واحدا لم يتغير : هو الحياة الراضية المرضية من خلال العمل اليدوي الخلاق الذي ينشد الجمال وينشد التجويد" . رباعيات جاهين يقول شحاتة : " كنت من اوائل الذين شاركوا في صالون القاهرة عام 1936 بلوحات تصوير زيتي.. وداومت علي الاشتراك في هذه المعارض الجماعية إلي ان جاء يوم قمت فيه بإلغاء كل أعمالي ودهنت لوحاتي بالأبيض.. ربما لأنني كنت غير راض عنها وربما لانني كنت مدفوعا لبدء مرحلة جديدة في حياتي والاتجاه للفن الشعبي وفي عام 1951 ساهمت بكثير من اعمالي في واحد من اهم المعارض التي شاركت فيها برباعيات الخيام وكانت الرباعيات التي ترجمها من الفرسية الشاعر احمد رامي صديقي فحاولت ان اعبر عن حبي له فرسمت معظم الرباعيات في لوحات فنية علي طريقة الفنان الإسلامي في العصر العباسي . لكن خميس شحاتة انتقل الي الايقاع الشعبي بعد ان استوعب آفاقه وايقاعاته وجعل منه تعبيرية اخري ونسقا جديدا مع الحرف العربي الذي تشكل علي يديه وانساب بلمسته.. يقف في رشاقة وينثني في حنان يجسد سر الأرض المصرية التي جادت بكل تلك الصور والتي تألقت في أشعار صلاح جاهين في الرباعيات وفؤاد حداد خاصة في لوحة عروسة المولد و" الاستمارة راكبة حمارة ".. ومن هنا وفي لوحاته نلتقي مع بورتريه أو صورة شخصية لمصر العالم الشعبي . وهو في الرباعيات يمزج بين البشر والحيوانات والطيور وتتكرر التداعيات الخطية راقصة خاشعة مستبشرة وحزينة تعكس حكمة الحياة والموت كما جسدتها عبقرية جاهين : «أنا كنت شيء وصبحت شيء ثم شيء شوف ربنا قادر علي كل شيء هز الشجر شواشيه لابد ما يموت شيء عشان يحيا شيء» لكن يظل للخط هيمنته في استدارات وانحناءات وتكراريات.. تذكرنا باختام الشعبيين النحاسية.. فيها روح الشخصية المصرية وسماحتها . لقد جاءت عروسة المولد والتي تعد أيقونة خميس شحاتة من وحي قصيدة فؤاد حداد بنفس الاسم وكان قد تذكرها أيام كان يشكلها في طفولته.. لكنها جاءت قادمة من سحر الفن القبطي وروح الفن الإسلامي مع زحام النقوش الشعبية التي تنساب في كريات ومربعات ومثلثات والعناصر النباتية بغلبة الاحمر الداكن والأزرق النيلي.. ويمتد الخط يحيط المراوح الثلاث يكمل الاطار الزخرفي الدائري : سكر نبات اكتمل..ما أرخص وأغلي الأمل.. اخضر سريسي..جسمي انفرد وانطوي..ما اعرفشي مين ياهوي..حيكون عريسي . تتحاور الخطوط مع النقوش في وحدة ونسيج واحد تضفي علي الايقاع حيوية تعكسها حركة الخط . لاشك ان لوحة " النيل "التي تقول " لاتقربواالنيل إن لم تعملوا عملا.. فماؤه عذب لم يخلق لكسلان "..تمثل احدي ذري فنه مع لوحته " اغنية حب نوبية " خاصة وقوامها من عناصر مرتبطة بالري والعطش مثل قطرات المياه والدورق الذي تنتهي فوهته برأس نسر كما انه مزين بطائر الارض المصرية ابو قردان الذي يتشكل من أحرف تلك الكلمات واللوحة يعلوها قلل مصفوفة واسفلها شريط من المياه . السبع سبع في عام 1967 ابدع الفنان شحاتة لوحته الشهيرة " السبع سبع وان كلّت مخالبه.. والكلب كلب وان طوقته ذهبا " وهي لوحة تشكل السبع فيها من الكلمات ويبدو ماسكا سيفه ومحفوفا بالزهور في ألوان غنائية رصينة يغلب عليها البني الفاتح والأحمر والأخضر والاصفر والأبيض..وهي تمثل مساحة من الاعتداد والشموخ الذي كنا في حاجة اليه في هذا الوقت من الانكسار وترتفع قيمتها بحجم تلك الظروف مع بلاغة الايقاع والتعبير.. وللاسف الشديد ضاعت هذه اللوحة منذ عام 2006 وكانت في مكتب من مكاتب قاعة الفنون التشكيلية بالاوبرا وضاعت في زحام أحد المعارض الجوالة.. وقد سبب ضياعها نوعا من الاكتئاب لابنه البار الفنان محمد الذي يعكف علي تراث والده ويحافظ عليه.. ونحن نتمني ان تعود مرة أخري يدل عليها من يعرف مكانها خاصة وهي إحدي علامات فنه.. وعند عودتها يقام معرض استعادي لأعماله تتألق فيه اللوحة بين اخواتها من بنات فنه. تحية الي روح خميس شحاتة الفنان المصري الأصيل.. أحد رواد الفن الشعبي .