يبدو أن ما توقعناه في مقال سابق قد تحقق تماما في نهاية هذه الدورة البائسة من دورات مهرجان «كان» السينمائي .. الذي أطل علينا بجوائز، كثير منها يقبل المناقشة والبعض منها يثير العجب قبل الإعجاب. خيبة وتعثر لاشك أن المستوي العام لهذه الدورة كان يتسم بالرداءة وخيبة الأمل رغم الآمال الكبري التي حلقت حول كثير من الأسماء البارزة المشتركة والذين خرجت أفلامهم المنتظرة تحمل «كومات» من الخيبة والتعثر وعدم الإقناع. كين لوتشي الإنجليزي الساخر صاحب الفيلم السياسي والقادر علي توجيه صفعات قوية لكل ما يراه ظالما في هذا العالم، سواء جاء من أفريقيا أو من آسيا أو من أوروبا بلده الأصلي ، اكتفي هذا العام بتقديم فيلم أراد له كما قال في أحاديثه الصحفية أن يكون «مسليا» عن مجموعة من الشباب عاطلة عن العمل تضطر إلي ابتكار نوع غريب من السرقة كي تواجه مستقبلا غامضا ينتظرها. لا أعتقد أن البطالة والتوبة وقسوة المجتمع يمكن أن تكون مادة للترفيه مهما كانت قوة المخرج وقوة السيناريو الذي يقدمه ومن الصعب جدا أن يضحكنا شاب يحاول أن يخرج من ورطة انزلاقه الإجرامي ليزداد سقوطا علي أرض الجريمة!! وجاء فيلم الكندي دافيد كرونبرج بعد رائعته عن فرويد العام الماضي محبطا أيضا تدور أحداثه كلها في إطار سيارة فاخرة تجتاز شوارع نيويورك المزدحمة يحاول فيها رجل فاحش الثراء يملك في سيارته كل شيء «السيارة أصبحت مكتبا وجارسونية وبورصة دوائر أعمال وغرفة نوم وبار» ويريد أن يعثر علي حلاق في آخر الدنيا ليقص له شعره مجتازا أهوال ومآسي مدينة نيويورك إلي أن يصادف «قاتله» الذي ربما كان هو أناه أخري. في نهاية غامضة وملتبسة. كل تكنيك جرودنبرج لم يفلح في التغلب علي سطحية المعالجة وعلي سذاجة الرمز ورأينا أنفسنا شديدي البعد عن عالم كرونبرج الذي عرفناه وأحبناه وعشقناه أحيانا. الدورة القنبلة أما أكثر الأفلام انتقادا في دورة هذا العام فكان فيلم البرازيلي والتر ساليس المأخوذ عن قصة جاك كيرداك «علي الطريق» انجيل الشباب الحديثة في أمريكا. الفيلم كان يمثل بالنسبة لهذه الدورة «القنبلة» التي ستنفجر وتأخذ في طريقها كل شيء ولكن يبدو أن القنبلة الثقيلة أصابها البلل قبل أن تنفجر فخرجت دون أي مفعول وتحولت قصة «علي الطريق» إلي فيلم سياحي يدور في أرجاء الولاياتالمتحدة ووضع ستار شائك علي جميع القضايا السياسية والأخلاقية والاجتماعية التي أثارها الكتاب عند صدوره ومازالت حتي اليوم تبدو نتائجه. تحول فيلم ساليس كما تحولت ذكريات جيفارا في مذكرات دراجة إلي فيلم يتمتع بجمال صورة وقوة موسيقي دون أي مضمون حقيقي أخلاقي كان أم سياسي أم اجتماعي.. كذلك كان حال فيلم الإيراني كيروستامي «مثل عاشق متيم» الذي تدور أحداثه في اليابان، ومن خلال سيارة تقطع مدينة طوكيو ليلا لتقل عاهرة شابة إلي فندق رجل أعمال ثمانيني ثم تعود صباحا لتعيدها إلي الجامعة التي تدرس فيها. دراسة جغرافية وشعرية لمدينة طوكيو لا تشكل أي جوهر حقيقي في سينما الإيراني الكبير الذي يتابع تجاربه الأوروبية بعيدا عن بلده محققا فشلا تلو الآخر. والغريب أن أهم ما جاءت به الأيام الآخيرة من المهرجان هو عرض عدة أفلام خارج المسابقة تحمل اسماء مخرجين كبار آثروا ألا يشتركوا رسميا في المسابقة كالإيطالي «برتولتش» وفيلمه البديع «أنا وأنت» عن مراهق يهرب من أسرته ويختبئ في قبو للعائلة ثم تلحق به اخته غير الشقيقة والمدمنة للمخدرات .. وهناك يكتشف كل منهما الآخر في هذا الحيز الضيق والخانق الذي أحالته يد المخرج الإيطالي العبقري إلي صورة تنبض بالحياة والحب والحساسية والحنان. كذلك فيلم الأمريكي «فيليب كوفمان» صاحب خفة الحياة التي لا تحتمل المأخوذ عن قصة كونديرا والذي يعود هذه المرة يروي صفحات مدهشة من تاريخ علاقة أرنست همنجواي بكاتبة صحفية رافقته مغامراته والهمته قصته الشهيرة «وداعا للسلام» دور تعود فيه نيكول كيدمان لاوج تألقها وإبداعها ويعود كوفمان يحتل مكانته كواحد من كبار مخرجي أمريكا المعاصرين. فيلمان كبيران عرضا خارج مسابقة هزيلة غير مترابطة سقطت فيها أسماء كبري وترنحت أسماء أخري ولم ينج من الطوفان الكبير إلا العبقري النمساوي «مايكل هانكي» وفيلمه المدهش والمليء بالأحاسيس المتدفقة والكبرياء الفني الشامخ والذي أطلق عليه اسم «هوي» ويتكلم عن موت الرحمة وصلة غريبة تصل به زوجة ريفية تعدت الثمانين وزوجها المحب العاشق. «إيمانويل ريفا بطلة هيروشيما تعود في دور لا ينسي أمام جان لويس ترنثبثان» كذلك خرج من الماء دون أن يصاب تماما بالغرق، فيلم آلان رنيه الأخير «أنت لم تر شيئا بعد» وهو فيلم شديد الخصوصية يعيدنا إلي أدب جان أنوي ومسرحياته التي اشتهرت في الخمسينات من خلال مؤلف يدعو ممثليه القدامي والجدد ليقوموا بأداء آخر أدوارهم التي كتبها لهم قبل موته !! والذي يبدو أنه كان مجرد حجة لخلق عالم من الوهم يواجه عالم الحقيقة. فيلم شديد الخصوصية ملييء بالحوار.. يعيدنا إلي سينما فرنسية تقليدية كاد يمحوها الزمن من ذاكرتنا ولكنه عودة مضيئة لمخرج تجاوز التسعين ومازال يقف شامخا وراء كاميراه. أفلام تحمل كما رأينا أسماء شهيرة تهتز لها الأطراف جاءت لتزيد من خيبة أملنا ومن مرارة سقوط هذه الدورة التي كنا نأمل أنها ستعيد الروح الينا. رهان عجيب هذا عن الأفلام فماذا عن الجوائز ومن الذي ربح ومن الذي خسر في هذا الرهان العجيب الذي كان من العسير إيجاد حل حقيقي له، وعوضا عن التنازع علي اعطاء الأولوية لبعض الأفلام عن بعضها الآخر حاولت لجنة التحكيم البائسة أن تجد مخرجا لها من هذا المأزق الكبير «فهل وجدت». لم يكن من الصعب التكهن منذ البداية بأن فيلم «هوي» لمايكل هانكي سيفوز بالسعفة إذ لم يكن هناك أمامه أي منافس آخر سوي الفيلم الروماني «وراء التلال» والذي فاز بجائزتين الأولي مستحقة تماما للممثلتين الرئيسيتين والثانية قابلة للنقاش وهي جائزة السيناريو والتي كان من الأفضل لها أن تذهب إلي الفيلم الفرنسي أوديار «الصدأ والعظام». وفي هذه المناسبة فإن السينما الفرنسية هذا العام قد ظلمت ظلما فادحا عندما تجاهلت هيئة التحكيم فيلم آلان رينيه الصعب والشخصي تماما، وابعدته عن ذهنها كما نسيت أو تناست فيلم «أوديار» رغم الأداء الشديد الحساسية لماريون كوتيارد. الظلم أيضا أصاب بطلي فيلم «هوي» الذين تجاهلتهما اللجنة ارضاء لعيون الشابتين الرومانيتين اللتان كانتا تستحقان جائزتهما. تماما كجائزة الدانماركي بطل «الصيد» الذي يذكرنا بالفيلم الفرنسي القديم «سبيل وأيام الأحد» والذي يروي اتهام طفلة ظلما لرجل بالغ باغتصابها وموته علي يد جمهور غاضب لا يعرف كيف يميز الحقيقة من الكذب. أما الجائزتان اللتان تثيران الدهشة والتساؤل إن لم تثيرا الضحك والسخرية منهما فيلم الإيطالي «غاروني» الذي فاز بالجائزة الكبري عن فيلمه «الحقيقة» عن زيف بعض البرامج التليفزيونية والذي شممنا فيه رائحة «الكوسا» كما يقول المصريون بطريقة مؤلمة. كذلك فيلم كين لوشي الذي لم أجد مبررا لمنحه أي جائزة بل اني لم أجد حتي مبررا لوجوده في المهرجان أصلا لولا اسم مخرجه الكبير الذي فتح له كل الأبواب. وتبقي جائزة الإخراج التي منحت للبرازيلي الجدير «روجاس» تخطيه جمال الفيلم الروسي وقوة إخراجه وعودة السينما الروسية بفضله إلي المقدمة والذي لا يشفع له حتي «جنونه» الحصول علي مثل هذه الجائزة الكبري. نعم لم يكن أمام اللجنة وأمام هذا السيل من خيبات الأمل التي أتتنا من كبار المخرجين ومن أفلامهم سوي الهرب إلي لافتة هانكي البراقة لتحتمي خلفها تاركة عشاق السينما يتحسرون علي دورة كانوا يحسبون لها ألف حساب ولكنها خرجت بالنتيجة بحساب واحد وفيلم كبير كبير وعدة أفلام صغري.